الإستراتيجية الأمريكية ورؤية ترامب الجيوسياسية والجيوإقتصادية لإعادة هندسة النفوذ عالمياً غرينلاند وفنزويلا نموذجاً

يحيى دايخ*

في قلب الطموحات الكبرى لإعادة تشكيل موقع الولايات المتحدة كقوة عالمية أولى، ظهرت ملامح استراتيجية إدارة دونالد ترامب التي جمعت بين الوقاحة السياسية والبراغماتية الاقتصادية. لم تكن محاولات السيطرة على غرينلاند وفنزويلا مجرد نزوات سياسية عابرة، بل عكست رؤية جيوسياسية متكاملة أراد ترامب من خلالها إعادة هندسة مناطق النفوذ العالمي، عبر توظيف عناصر الجغرافيا، والطاقة، والموارد الطبيعية، والصراع الدولي على الممرات المائية والبرية والكتل الصاعدة.

غرينلاند، الجزيرة الجليدية التابعة للدانمارك، لم تكن هدفًا لجمال طبيعتها، بل لأنها تشكّل موقعًا بالغ الأهمية في الصراع على القطب الشمالي، حيث الثروات غير المستغلة، والممرات البحرية الجديدة، وقربها من روسيا والصين.
أما فنزويلا، الواقعة في “الفناء الخلفي” لأمريكا، فتختزن أعظم احتياطي نفطي عالمي وتُمثّل نقطة ارتكاز أساسية في صراع واشنطن مع تمدد النفوذ الصيني–الروسي في أمريكا اللاتينية.
عكست رغبة ترامب في الاستحواذ على هذين الكيانين رؤية “إمبراطورية معاصرة”، تقوم على السيطرة الاستباقية على الموارد، والممرات الاستراتيجية، وأدوات الردع الجيوسياسي، في وقتٍ يتآكل فيه التفوق الأميركي أمام صعود القوى الشرقية.
في هذا المبحث التحليلي سأحاول الإضاءة على رؤية الرئيس الأمريكي الإستراتيجية ودوافعه الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ومن خلال توضيح كيف أن غرينلاند وفنزويلا تمثّلان نقطتين محوريتين في هندسة القرن الأميركي الجديد، والتي من خلالها يمكن تكوين فكرة عامة عن أساليب عمله في باقي مناطق العالم لإعادة تشكيل النفوذ.

أولاً – المسار الاقتصادي الصيني-الروسي عبر مبادرة الحزام والطريق
ما هي مبادرة الحزام والطريق؟
هي مبادرة أطلقها الرئيس الصيني شي جينبينغ عام 2013، وهي مشروع عالمي ضخم يهدف إلى إعادة إحياء طريق الحرير التجاري عبر آسيا وأوروبا وإفريقيا، من خلال بنية تحتية ضخمة وشبكات تجارة ونقل واستثمار.
تتكوّن المبادرة من:
1. الحزام الاقتصادي لطريق الحرير (بري، عبر آسيا).
2. طريق الحرير البحري (بحري، عبر المحيط الهندي).

المسار الصيني الروسي ضمن المبادرة
المسار البري عبر روسيا (الطريق الشمالي):
– يربط الصين بروسيا عبر سكك حديد وشبكات طرق تمر بـ:
– الصين (منطقة شينجيانغ)
– كازاخستان
– روسيا (سيبيريا)
– شرق أوروبا
– قطارات الشحن بين الصين وأوروبا تمر عبر الأراضي الروسية، وازدادت بشكل كبير منذ 2013.
التعاون في البنية التحتية والطاقة:
– الصين تموّل مشاريع لوجستية داخل روسيا (موانئ، مناطق تجارة حرة).
– مشاريع ضخمة للطاقة مثل:
خط أنابيب الغاز “قوة سيبيريا” الذي يضخ الغاز الروسي إلى الصين.
اتفاقيات لتبادل الطاقة وتوطين الصناعة.

الاندماج مع الاتحاد الأوراسي:
– روسيا تقود تكتل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) .
– الصين وروسيا تسعيان لدمج “الحزام والطريق” مع هذا التكتل لتسهيل حركة السلع والاستثمار.
الأهداف المشتركة
الصين: تريد منفذًا بريًا وآمنًا نحو أوروبا، وتقليل اعتمادها على ممرات بحرية يسيطر عليها الغرب.
روسيا: تستفيد من تدفق الاستثمار الصيني، وتقوية روابطها مع آسيا لتقليل عزلتها الغربية.

أهمية المسار
– يمثل محورًا اقتصاديًا وجيوسياسيًا مضادًا للنفوذ الغربي.
– يعزز الاعتماد المتبادل بين الصين وروسيا في مواجهة العقوبات والعزلة.

ثانياً – أهمية فنزويلا بالنسبة لرؤية دونالد ترامب من منظور جيوسياسي–اقتصادي يكشف عن عدة اعتبارات استراتيجية تفسّر محاولاته الحثيثة لإسقاط نظام نيكولاس مادورو
الأهمية الاقتصادية لفنزويلا
ثروات نفطية هائلة:
– فنزويلا تملك أكبر احتياطي نفط مؤكد في العالم (أكثر من 300 مليار برميل).
– السيطرة على هذه الثروة أو التأثير عليها يُمكّن واشنطن من:
ضبط أسعار السوق العالمية.
تقويض تحالفات النفط المناهضة لها (مثل “أوبك” التي تضم روسيا).
المعادن النادرة والذهب:
– تحتل فنزويلا مراتب متقدمة في احتياطي الذهب والموارد الطبيعية الأخرى (مثل البوكسيت).
– في ظل التنافس التكنولوجي، الموارد المعدنية تعتبر عنصرًا استراتيجيًا في معادلة الهيمنة.
القرب الجغرافي من الولايات المتحدة:
تقع فنزويلا على خاصرة أمريكا الجنوبية، على مقربة مباشرة من الكاريبي، أي أنها في “الفناء الخلفي” للولايات المتحدة

الأهمية الجيوسياسية في رؤية ترامب
مواجهة نفوذ الصين وروسيا في أمريكا اللاتينية:
– الصين تستثمر بمليارات الدولارات في البنية التحتية والديون الفنزويلية.
– روسيا تدعم مادورو عسكريًا واستخباراتيًا.
– ترامب يرى في فنزويلا رأس جسر للنفوذ الصيني–الروسي تتأثر به الأمريكتين الشمالية والجنوبية، وبالتالي هو ساحة مواجهة غير مباشرة.

محاصرة الأنظمة “اليسارية” المناهضة للغرب:
-واشنطن لطالما دعمت تغيير الأنظمة “غير الصديقة” في القارة.
– إسقاط مادورو سيمثل صفعة كبرى لمحورالمقاومة البوهيمي في أمريكا اللاتينية (كوبا، بوليفيا…).

ممر جيوسياسي للطاقة والتجارة:
– فنزويلا تتيح عبر البحر الكاريبي ممرات بديلة لنقل الطاقة.
– التمركز فيها يؤمن للولايات المتحدة نقاط ضغط على الممرات البحرية في الأطلسي الجنوبي.

ثالثاً – الربط الإستراتيجي العام بين الإستراتيجية الأمريكية ورؤية ترامب الخاصة
يمكن الربط بين رؤية ترامب والإستراتيجية الأمريكية بإعادة تشكيل النفوذ في العالم عبر كلٍ من غرينلاند وفنزويلا، وأولويته في النزاع مع الصين، من خلال منظور جيوسياسي وجيو-اقتصادي واحد يقوم على:
غرينلاند – البوابة القطبية والموارد
موقعها الجيوسياسي: غرينلاند تقع في قلب القطب الشمالي، وموطئ قدم قطبي لمراقبة روسيا والصين، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية قصوى بسبب ذوبان الجليد، الذي فتح فرصاً لممرات مائية جديدة (مثل الممر الشمالي الشرقي).
الموارد الطبيعية: غنية بالمعادن النادرة والنفط، وترامب يرى فيها فرصة لتعزيز النفوذ الأميركي في وجه روسيا والصين، خصوصاً أن الصين كانت بدأت الاستثمار في بعض البنية التحتية هناك.
الهدف الأميركي: منع الصين من التمدد في القطب الشمالي، وتعزيز النفوذ الأميركي في مواجهة روسيا.

فنزويلا الذهب والنفط ومواجهة النفوذ الصيني-الروسي
الثروات: فنزويلا تملك أحد أكبر احتياطيات النفط في العالم، بالإضافة إلى كميات ضخمة من الذهب والمعادن.
التموضع الجيوسياسي: نظام مادورو حليفاً مباشراً لروسيا والصين، وقدّم تسهيلات عسكرية واقتصادية لهما.
الهدف الأميركي: ترامب يسعى لفصل فنزويلا عن محورالمقاومة اللاتينية (البوهيمي) ومحوربكين-موسكو، واستبدال النظام القائم بنظام صديق لواشنطن، يُعيد التموضع الأميركي في القارة اللاتينية.
الصين العدوالمركزي في العقيدة الترامبية
الحرب التجارية والتكنولوجية: أراد ترامب كبح الصعود الصيني عالمياً.
والتحكم بسلاسل الإمداد والمعادن النادرة، فالصين تسيطر على نسبة كبيرة من المعادن الضرورية للصناعات الحديثة. لذلك، سعى ترامب لتأمين مصادر بديلة (غرينلاند وفنزويلا مثالان مهمّان).
احتواء النفوذ الجيوسياسي: من أمريكا اللاتينية إلى القطب الشمالي إلى إفريقيا، كان همّه عرقلة مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
– كما أن ترامب يريد نصرًا سريعًا ورمزيًا من خلال “تغيير النظام” في فنزويلا، لذا هو يدعم المعارضة، وفرض عقوبات خانقة، وهدد بالتدخل العسكري.
– ويرى في إسقاط مادورو “ضربة مزدوجة” للصين وروسيا في نصف الكرة الغربي.

النتيجة
لذا الربط بين هذه الملفات يكشف عن عقيدة جيو-اقتصادية لدى ترامب، تقوم على:
السيطرة على الموارد الاستراتيجية.
محاصرة تمدد الصين وروسيا.
إعادة تشكيل النفوذ الأميركي عالمياً خارج الأطر التقليدية.
بالتالي فنزويلا هي نقطة تقاطع استراتيجية في سياسة ترامب الدولية:
نفط + موقع جغرافي + صراع نفوذ مع الصين وروسيا + نموذج رمزي لتغيير الأنظمة المناوئة.

*كاتب ومحلل سياسي