اسماعيل النجار*
.تتعامل الولايات المتحدة الأميركية مع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفق رؤى استراتيجية بعيدة المدى، تُبنى عادة على خطط عشرية متراكمة، لا على قرارات ظرفية أو ردود أفعال آنية. ويمكن القول إن هذه الرؤى ترتكز، تاريخيًا وعمليًا، على ثلاثة ثوابت مركزية حاكمة للسياسة الأميركية الصهيونية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
.أولاً؛ منع قيام أي اتحاد عربي بين دول المنطقة، لما قد يمثله من ثقل سياسي واقتصادي مستقل.
.ثانياً؛ منع قيام أي اتحاد إسلامي بصرف النظر عن طبيعته أو مرجعيته.
.ثالثاً؛ منع نشوء أي دولة إسلامية ذات سيادة حقيقية، مهما كان لونها السياسي أو انتماؤها القومي.
.في البُعد الاقتصادي والمالي تقوم الاستراتيجية الأميركية على منع دول المنطقة من تحقيق أي تقدم علمي أو صناعي مستقل، أو السماح بامتلاك قدرة فعلية على التحكم بثرواتها الطبيعية. ويُقابل ذلك إبقاء هذه الدول في موقع التابع اقتصاديًا، لا المنتج.
.أما ماليًا، فتُحاصر أي محاولات لبناء منظومات مالية مستقلة عبر؛
منع قيام أي اتحاد مصرفي أو مالي إقليمي. ورفض فكرة إصدار عملة موحدة. وتعطيل إنشاء سوق حرة حقيقية بين دول المنطقة.
ثانيًا؛ في البُعد التجاري والعسكري
تسعى الولايات المتحدة إلى الإبقاء على دول الشرق الأوسط أسواق استهلاكية مفتوحة، وبخاصة لسوق السلاح الأميركي والغربي، بما يضمن تدفقًا ماليًا مستدامًا إلى خزائن الدول الصناعية الكبرى. وفي هذا السياق، جرى توظيف الانقسامات الدينية والطائفية والمذهبية والقومية، وزرع الفتن وإشعال النزاعات، بما يسمح بإعادة إنتاج أنظمة موالية تتحكم بها واشنطن عبر مفاصل النفط والسياسة الخارجية والتجارة.
.ثالثًا؛ نقدم غزة كنموذج تطبيقي للخطة، ففي هذا الإطار العام، تبرز الخطة المتداولة حاليًا بشأن قطاع غزة كجزء من مقاربة أوسع. فالهدف المعلن يتمثل في الوصول إلى وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، ثم الانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار وفق شروط أميركية إسرائيلية واضحة. وتشير بعض التفاصيل المتداولة إلى تصور يقوم على تقسيم قطاع غزة إلى منطقتين رئيسيتين؛
منطقة “خضراء” تخضع لسيطرة إسرائيلية مباشرة، بمشاركة قوة دولية، ويُسمح فيها بإعادة الإعمار وإدخال المساعدات. ومنطقة “حمراء” تبقى خارج السيطرة المباشرة للجيش الإسرائيلي، مع تواجد محدود لحركة حماس أو عناصر فلسطينية أُخرى منزوعة القدرة على المواجهة العسكرية الفعلية.
.وهنا لا يُنظر إلى هذا التقسيم باعتباره مجرد طرح نظري، بل كخيار قابل للتحول إلى واقع ميداني في حال تعثرت مسارات الخطة أو فشلت في تحقيق أهدافها السياسية والأمنية.
رابعًا: من “السيادة الأميركية” إلى الإدارة المشروطة التي سبق أن طُرحت، في مراحل سابقة، وأفكار أكثر راديكالية داخل إدارة ترامب، تمثلت في مقترح أن تتولى الولايات المتحدة “السيادة” على قطاع غزة بالكامل، مع إعادة توطين سكانه خارج القطاع، والشروع في إعادة إعمار شاملة. وقد قوبل هذا الطرح برفض واسع من دول عربية ومنظمات دولية، كما رفضته دول محتملة لاستقبال السكان، وفي مقدمتها مصر.
ويُلاحظ أن الخطة المطروحة حاليًا تمثل تحولًا تكتيكيًا، لا تراجعًا استراتيجيًا، في السياسات الأميركية، إذ انتقلت من فكرة السيطرة المباشرة إلى نموذج الإدارة الأمنية والسياسية المشروطة.
خامسًا: الأهداف المعلنة والخفية
تُقدَّم الخطة الأميركية رسميًا على أنها تهدف إلى وقف الحرب وتقليص العنف عبر اتفاقات مرحلية لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. وإعادة إعمار “آمنة ومنظمة” تُمنح فيها الأولوية للمناطق الخاضعة لسيطرة مستقرة.
.أيضاً نزع سلاح حركة حماس تدريجيًا أو تقليص دورها السياسي والعسكري.
غير أن معطيات عديدة تشير إلى أهداف أعمق أبرزها؛ إعادة تشكيل الواقع الجغرافي والسياسي في غزة بما يخدم أمن إسرائيل. وإضعاف الموقف الفلسطيني في أي تسوية نهائية محتملة. وفرض وصاية دولية أميركية على القرار الأمني والسياسي في مرحلة ما بعد الحرب. وربط إعادة الإعمار بتسوية سياسية شاملة بشروط أميركية.
سادسًا؛ الخطة الأوسع للمنطقة
لا يمكن فصلها عن خطة غزة وعن رؤية أوسع يُتداول بشأنها في بعض مراكز التفكير والتحليل، تقوم على إعادة تقسيم الشرق الأوسط إلى كيانات صغيرة متناحرة. وتشمل هذه الرؤية، وفق بعض الطروحات، تقسيم سوريا إلى عدة دويلات، بهدف إضعافها، وإنهاء الحرب فيها بشروط تتيح إعادة الإعمار تحت إشراف دولي صارم. وفي السياق نفسه، تُطرح أهداف تتعلق بوقف الحروب في فلسطين وسوريا ولبنان، بعد تحييد أو تجريد قوى المقاومة، وفي مقدمتها حزب الله، من سلاحها، ثم الانتقال إلى نزع سلاح الفصائل المسلحة في العراق واليمن، بذريعة حماية أمن إسرائيل وضمان الملاحة البحرية والتجارة العالمية.
.لذلك تُظهر مجمل هذه المعطيات أن المشروع المطروح لا يقتصر على غزة، بل يستهدف إعادة رسم خريطة النفوذ والسيطرة في المنطقة بأكملها، عبر كيانات ضعيفة، منزوعة القدرة على الردع، تفتقر إلى السيادة الحقيقية. وبذلك تتحول المنطقة إلى مجموعة دول بلا أنياب ولا أظافر، خاضعة لمنظومة أمنية وسياسية تخدم المصالح الأميركية – الإسرائيلية بالدرجة الأولى.
بيروت، في 27/12/2025
*كاتب لبناني

















