اسماعيل النجار*
.لم يَعُد خافيًا على أيٍّ من عواصم القرار أنَّ الحل العسكري في لبنان مستعصٍ، وأنَّ معادلات القوة التي فرضتها المقاومة خلال العقود الماضية جعلت من خيار الحرب الشاملة مغامرة غير محسوبة الكلفة، داخليًا وإقليميًا. فالأطراف اللبنانية التي تُصنَّف ضمن المحور المؤيد لواشنطن وتل أبيب، تفتقر إلى القدرة السياسية والشعبية والعسكرية لخوض مواجهة مع حزب الله، فيما يقف الجيش الإسرائيلي نفسه أمام معضلة أكبر؛ هيَ الخوف من الميدان البري.
.إسرائيل التي اعتادت إدارة حروبها من الجو، تدرك باعتراف تقارير عسكرية غربية وإسرائيلية أنَّ الأرض في جنوب لبنان ليست حيادًا جغرافيًا، بل بيئة قتال معقّدة، خبرها أبناء المقاومة، وأتقنوا التحرك فيها، حتى باتت تشكّل كابوسًا لأيّ قوة تفكر بالاشتباك المباشر. ومن هنا، فإنَّ التهيُّب الإسرائيلي من الانتقال من الغارات الجوية إلى الحرب البرية ليس موقفًا سياسيًا، بل تقدير عسكري بحت، ولو كان غير ذلك لكانت تل أبيب أقدمت عليه منذ زمن.
.في المقابل، تعمل الولايات المتحدة على إدارة الصراع لا حسمه، عبر محاولة خلق توازنات قسرية في مواجهة كل قوة تنتمي إلى محور المقاومة على حدة، بدل خوض مواجهة شاملة قد تنفلت نتائجها. وفي هذا السياق، يعود تنظيم داعش ليظهر مجددًا كأداة فوضى جاهزة للاستثمار، لا كقوة مستقلة القرار.
.ففي العراق، لا يزال التنظيم رغم هزيمته الميدانية الكبرى يحتفظ ببُنى نائمة وقدرة على التحرك المحدود في مناطق رخوة أمنيًا تحت حماية الولايات المتحدةالأميركية، مستفيدًا من الثغرات الجغرافية والسياسية والمعلومات الإستخبارية التي تقدمها واشنطن لهم من حين لآخر. ويأتي تحركهم وتنقلهم بعد إستطلاع جوي أميركي لطريق تنقلاتهم.
.وتأتي الغارات الأميركية الإعلامية “والاستباقية” على مواقع يُعلن أنها لداعش، في إطار حملة إعلامية أكثر منها استراتيجية حاسمة، تُستخدم لتبرير الوجود العسكري الأميركي، ولإعادة خلط الأوراق عند الحاجة.
القراءة الأوسع تشير إلى أنَّ المخطط الأميركي لا يقوم على إعادة تمكين داعش كـ“دولة”، بل توظيفه كعامل استنزاف ووضعه في مواجهة الحشد الشعبي والفصائل العراقية، وإبقائه ورقة ضغط دائمة تُستخدم عند أي تحوّل سياسي لا يخدم المصالح الأميركية.
.أما في لبنان، فالصورة أكثر تعقيدًا. فالتنظيم حاول خلال السنوات الماضية اختراق الساحة اللبنانية عبر الحدود الشرقية، مستفيدًا من الفوضى السورية آنذاك، إلا أنَّ الضربات الاستباقية التي نفذها الجيش اللبناني والمقاومة، إضافة إلى الوعي الأمني العالي، أحبطت كل تلك المحاولات. ومنذ ذلك الحين، تراجعت قدرة داعش على العمل المنظّم داخل لبنان، وتحولت تحركاته إن وُجدت إلى محاولات فردية أو خلايا معزولة، تفتقر إلى البيئة الحاضنة والقدرة اللوجستية.
.المؤشرات الأمنية المتداولة لا تتحدث عن قدرة حقيقية للتنظيم على تنفيذ عمليات واسعة أو تغيير قواعد الاشتباك في الداخل اللبناني، إلا أنَّ الخطر يبقى قائمًا من زاوية التوظيف الخارجي، أي استخدام مجموعات متطرفة متنقلة، أو مقاتلين أجانب، كورقة ضغط أمنية أو سياسية، لا سيما في لحظات التوتر الإقليمي.
وفي الإطار ذاته، يندرج الحديث عن إشعال جبهات متعددة، من لبنان إلى العراق وصولًا إلى اليمن، حيث تسعى إسرائيل بدعم سياسي غربي إلى نقل الصراع من حالة الردع إلى حالة التشتيت، عبر فتح مسارح ضغط متزامنة، علّها تكسر توازن القوى القائم.
.لكن الوقائع حتى اللحظة تُظهر أنَّ محور المقاومة ما زال يمسك بإيقاع المواجهة، ويُحسن إدارة الزمن السياسي والعسكري، فيما تعجز واشنطن وتل أبيب عن فرض معادلة جديدة دون الانزلاق إلى حرب مفتوحة، لا يضمن أحد نتائجها.
في الخلاصة، ليست المسألة في نوايا الحرب، بل في كلفة قرارها. وما دام ميزان الردع قائمًا، ستبقى أدوات الفوضى ومنها التنظيمات المتطرفة حاضرة في غرف التخطيط، لكنها تصطدم، مرة بعد أخرى، بواقع ميداني صلب، عنوانه؛ أنَّ لبنان ليس ساحة سائبة، وأنَّ الحرب البرية ليست خيارًا سهلاً، لا اليوم ولا في المدى المنظور.
من هذا المنطلق تراجعت أسهم الحرب وحَلَّت مكانها المفاوضات السرية والإتصالات.
*كاتب ومحلل سياسي
















