ميخائيل عوض*
“الإسلام هو الحل”. و”جيش محمد سوف يعود”. و”القدس تأبى أن تتحرر إلا على يد المسلمين”؟
شعارات أطلقتها جماعات الإسلام السياسي والمسلح بعد حرب ١٩٦٧ وهزيمة الأنظمة الوطنية، التي أنتجتها الجيوش والنخب المثقفة ذات المصالح القطرية الكيانية، تحت شعارات القومية لتأمين قطرياتها القاصرة والعاجزة والمُصنَّعة قسراً وجوراً كإسرائيل، لتتخادم معها وفي خدمة السيطرة الاستعمارية، فقد صعدت إلى النظم على أثر:
هزيمة تصادمات ١٩٤٧/٤٨التي أدارتها النظم القديمة، ومبادرات شعبية عفوية، وبلا إسناد حقيقي أو رؤية متكاملة، وبدون تنظيمات وكتل تاريخية حاملة لمشروع متكامل، حسمتها الدول المنتدبة بتسليم فلسطين للعصابات الصهيونية، وتوجتها بالاعتراف بدولة إسرائيل.
بعد هزيمة النظم والجيوش عام ٦٧ تصاعدت بوتيرة متسارعة شعارات الإسلام هو الحل؟ وجوهر الفعل؛ تسيس الإسلام لخدمة مصالح وكتل وقوى بعينها، على طريقة النظم والنخب التي سبقتها ورفعت شعارات قومية وشعبوية، وجرى تصوير الصراع كصراع ديني عميق الجذور والمقدمات، فتسلقت على الشعارات فصائل الإسلام السياسي وأنتجت فصائل مسلحة من تياراتها الإخوانية والوهابية والسلفية، أُعِدت ودُرِبت على يد الأجهزة الأمنية الغربية، وبقبولٍ ومشاركة إسرائيلية، لتوظيفها في وجه المشروع القومي الاجتماعي الشعبوي. وزجت بفتوة الشعوب والأمة بحروب عبثية خارجية، لا علاقة لها بجوهر الصراع العربي الصهيوني، وتم توظيفها من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية وآسيا خدمة لمشروعات الهيمنة الغربية الاستعمارية، ذاتها صاحبة مشروع إنشاء وتصنيع إسرائيل وإسنادها وتصنيع الكيانية ودولها القاصرة. وأتمت دورها ووظيفتها في الإسهام النوعي بتدمير الدول والجيوش، التي بقيت على شعاراتها وقاومت وعاندت السيطرة الأمريكية على العرب والمسلمين، وأسهمت نوعياً بحفظ القضية القومية وأبقتها حية.
٢
تحقيب التاريخ وربطه بأحداث وتواريخها لاسيما الحروب، باعتبارها القابلة الموَّلِدة لجديد في الأمم لا يعني ألبته تاريخ محدد يقطع مع السابق وينفيه.
على العكس فالحقب متداخلة، والواحدة تنشأ في أحشاء السابقة، وتتعايش معها وتترافقا.
والتأريخ يعني لحظة تشكل غلبة أولية للجديدة على حساب بدء أفول وتراجع العتيقة، وقد يستغرق زمناً طويلاً.
بين حرب الـ67 و 2023 سقوط آخر نظم الجيوش وشعاراتها القومية والشعبوية ” نظام البعث في سورية” زمن طويل تخللته محاولة منها لاستعادة دور ومكانة رائدة في حرب ١٩٧٣ التي خيضت بكفاءة عالية تخطيطاً وتنفيذاً ومفاجأة، وحقق فيها الجيشان المصري والسوري فتوحات عسكرية. إلا أن النظام المصري ذهب بعيداً في انتزاع مصر من الصراع، وتأمين غطاء للسعودية وأموالها لقيادة الحقبة العربية على مسار التنازلات والتسويات ومحاصرة النظم والقوى، التي ظلَّت على خط الصراع. كما وظفت حقبة السعدنة والساداتية قدراتها تحت إدارة أمريكا لتصفية زمن الشعبوية، من المنظمات والفصائل والأحزاب الفلسطينية والعربية في مسرحي الأحداث الأردن ثم لبنان، واستهلكت فيها حقبة الأحزاب والفصائل التي قضت زمنها وتراجعت بنتائج الاجتياح الإسرائيلي لبيروت ١٩٨٢.
والحق يقال؛ أنَّ النظم حاولت وقاتلت وصمدت في وجه محاولات مكثفة لإسقاطها بالعقوبات والحصارات، وتخليق الأزمات والتوترات، واستخدام فصائل الإسلام السياسي والمسلح لإسقاطها، كما في عشرية الجزائر الدموية، وفي سورية مع الإخوان المسلمين، ثم توريط العراق بحربه على إيران الإسلامية وغزو الكويت. ولم تسقط إلا بالغزوات الخارجية كما في غزوة بغداد ٢٠٠٣، وليبيا بعد الربيع العربي، وتفكيك السودان، ومحاولات غزو وتقسيم اليمن، ثم إنهاك سورية بحرب العصابات الإرهابية المسلحة بإسناد وقيادة من تركيا الإردوغانية، وحلفها وجيشها الإخواني السلفي، وتمويل وشراكة من أُسر الخليج، وبغزو عسكري أمريكي وأطلسي، واحتلال وإقامة قواعد عسكرية.
٣
حقبة المقاومة الإسلامية التي تعززت نوعياً، وصعدت وتمكنت اعتباراً من انتصار الـ٢٠٠٠ الإعجازي في لبنان، ثم الـ٢٠٠٥ بتحرير غزة بلا قيد أو شرط أو تفاوض على نموذج لبنان، وتعزز في حرب حزيران ٢٠٠٦ تأمنت بثبات ورسوخ وتمكنت بفعل التبني من سورية والتمويل والتسليح من الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي كان لانتصارها ١٩٧٩ الدور المحوري في إنهاض وتسويق وهيمنة حقبة المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين، وأسهمت نوعياً في ارتقائها وتطورها في اليمن منذ ٢٠٠٤ وحروب صعدة، وصولاً لسيطرة الحوثيين على صنعاء ومحافظات في اليمن الشمالي، وإسهامهم النوعي في إسناد غزة، والسيطرة على البحار والانتصار بحربين كبيرتين في وجه إسرائيل والأطلسي مع حلف الازدهار، وفي مواجهة أمريكا الترمبية، ونجح اليمن بكسر وإلحاق الهزيمة بالبحرية الأمريكية في حرب الأسابيع الخمسة.
٤
هكذا ارتقت وتطورت وتداخلت الحقب، وتفاعلت بمنطق الأحداث والتطورات، ومسارات أزمنه البشرية وارتقائها، حتى بلغت المقاومة الإسلامية اللبنانية مكانة قيادة الحقبة وطبعتها بطابعها وبخاصياته، وتفردت بعد موت حافظ الأسد وتراجع مكانة سورية من دولة مؤسِسة قاعدة قائدة لخيار المقاومة إلى ساحة إسناد ودعم، وزاد في التراجع الانسحاب من لبنان على إثر اغتيال الحرير وتفويض دمشق لحزب الله بإدارة لبنان والصراع مع إسرائيل. فتقدمت في مختلف الساحات وهي تعلن ولائيتها وتعلي مكانة ودور إيران كمركز محوري في تأمينها وفي قيادة محور المقاومة، وعززها غزو العراق وسقوط صدام حسين، والتشاركية بين إيران وحلفائها، والأمريكي وأدواته في إدارة العراق ولبنان.
٥
مع بدء الأزمة السورية ٢٠١٢ وقد أَمن النظام نفسه بيئتها وشروطها، بالتحول من دولة رعاية اجتماعية إلى دولة جباية لتمويل الفساد، وإعادة الهيكلة التي سلَّم النظام قيادتها للدردرية المنتجة في مختبرات الاتحاد الأوروبي، وإجماع واشنطن وليبراليتها المتوحشة، ومن انفجار الأزمة وتحولها إلى الصراع المسلح.
ارتبكت المقاومة في غزة وهادنت إسرائيل، وتحولت حماس إلى الضد من النظام السوري والمحور، وتورطت بإسناد مجاميع المسلحين الذين صنفهم مجلس الأمن بالجماعات الإرهابية، وقاتلت مع الإخوان المسلمين وجيش إردوغان الإسلامي في مواجهة حزب الله والميليشيات التي زجتها إيران لإسناد النظام السوري.
وكانت أخطر سقاطاتها التاريخية، فتركت آثار نوعية في مسارات الحرب بعد الطوفان العجائبية، وما صارت عليه غزة والضفة وفصائل ودول المحور بعد سقوط النظام السوري.
٦
الطوفان العجائبية استعجلت وضع المقاومة الإسلامية بدولها وفصائلها، والنظام السوري وما أُطلق عليه محور المقاومة أمام الاختبار العملي، لتقرير ما سيكون واختبار قدراته ووعوده، وما أعدَّ للحرب الكبرى التي عرَّفها السيد حسن؛ بـ “حرب تحرير فلسطين من البحر إلى النهر”.
الطوفان جاءت بوقتها وزمانها كتعبير عن ضرورات وحاجات الصراع لختم حقبة التفاوض والتسويات والحروب على الدول والنظم الباقية على شعاراتها وخياراتها، ولتصير زمن تقرير الفصل في الصراع على الحق القومي غير القابل للتجزئة أو التسويات، وإنجاز حله بخيار من اثنين؛ إما إبادة القوم أصحاب الحق أو استعادته كاملاً عملاً بقواعد التطور التاريخي للبشرية.
السعي الإسرائيلي الأمريكي مُعلن وغير ملتبس، بل مُمارس لإبادة القوم أصحاب الحق، بينما المقاومة الإسلامية وما تبقى من المحور يبدو مرتبكاً وغير حازم في خياراته، يبحث عن مخارج انتقالية، وعن تهدئة ويسعى إلى التفاوض والهدن.
٧
بسقوط النظام السوري، والضربات المؤلمة التي أصابت المقاومة الإسلامية في لبنان، وانكشاف ضعف واختراق الفصائل العراقية المحسوبة شكلاً على المقاومة والمحور، توفرت لنتنياهو وترمب فرصة ذهبية لمحاولة إسقاط النظام الإسلامي في إيران، وتفكيك دولتها والعبث بثرواتها وجغرافيتها. وقد وجهت ضربة نوعية لها باستثمار ما جرى في سورية ولبنان وغزة والعراق، وانكشافها جغرافياً، وبحجم الاختراقات في بنيتها ومجتمعها.
إلا أنَّ إيران نجحت في ترميم خسائرها، وحفظت وحدتها، ونجت بنظامها، وقاتلت وكادت على تصريح ترمب أن تدمر إسرائيل لولا قبولها وقف النار.
ونجحت غزة بمثابرة وثبات وببطولات استثنائية أسطورية بالصمود والقتال لسنتين، والإبداع في المواجهات من المسافة صفر، ومسك العدو من الحزام، وأَعجزت اسرائيل وحلفها عن تحقيق أيٍ من أهداف الحرب، وأَزَمتهما وكشفت التعارضات بين مشروع ترمب لاستيطان المنطقة ومشاريع نتنياهو لتعظيم مكانة وجغرافية إسرائيل وتمكينها من فلسطين وتحقيق إسرائيل الكبرى وصياغة الإقليم. وكان رجال المقاومة اللبنانية قاتلوا وأنتجوا نموذجاً أسطورياً في قرى الحافة الأمامية وفي الحرب البرية، حيث فرضت الحرب المواجهات من مسافة صفر وأسهمت في كشف الجيش الإسرائيلي وثغراته وعجزه الميداني في حرب البر.
وقف إطلاق النار في لبنان وإيران، ومنح نتنياهو فرصة استعراض عضلاته الصوتية، وعضلاته في اليد الطويلة والحرب السرية، بدأت تترك آثار سلبية وترسم إشارات على احتمال استنفاذ حقبة المقاومة الإسلامية و”الإسلام هو الحل”. وتفتح الأمور على أسئلة جوهرية عميقة؛ أهمها هل سينتهي الصراع بإبادة القوم أصحاب الحق أم تنطلق حقبة جديدة تتساند فيها المقاومة بطبيعتها الإسلامية الولائية مع منتجات العصر وحقبته التاريخية الجديدة، بشراكة مع فصائل سنية تتحول في الشام والرافدين تحت ضغط الصراع وخطر الإفناء وتتساند مع نهوض شعبي وولادة طلائع ثورية قومية معاصرة؟ كما توفر للنموذج اليمني دوراً نوعياً في الصراع، وفي إعادة تشكيل العرب والإقليم الجارية، بينما تقدم الوقائع والأحداث فرص واحتمالات لتغيرات هيكلية في دور ونظم دول عربية وإسلامية تفرض عليها المرحلة تحولات جوهرية، وتغيير أشرعتها أو مستقبل كما في سورية والعراق وليبيا والسودان.
…/ يتبع
*كاتب ومحلل سياسي















