هاني سليمان الحلبي*
حللتم يا صاحب القداسة البابا لاون الرابع عشر، لبنان أهلاً ووطأتموه سهلاً، ونافس الجميعُ الجميعَ بالترحيب بقدومكم الميمون، حتى رأوا فيكم الحل الشافي والعلاج المعافي لكل معضلاتهم المزمنة من أول الزمان إلى نهاية الزمان. وتكفي رقوة أو دعوة من قداستكم لتسهيل العوائق عوناً للبنانيين في صعوبة المضائق، التي تكاد تخنقهم وتضيّق عليهم الأنفاس والهواء وقوت الغذاء وغلاء الدواء!!
وبعدُ..
ودعوتكم للسلام في لبنان موضع قبول عام مؤقت، لأن من يقبلها يقبلها شكلاً ولا يكلّف نفسه بالبحث عن أسباب النزاع الناشب بين الطوائف أحياناً وبين الأحزاب أحياناً اخرى، وبين السلطة حيناً وبين قوى المال حيناً آخر.. وفي كل حال هو شأن داخليّ صرف يخصّ أصحابه وقد يعني اللبنانيين كافة في بعض الشؤون او أطراف النزاع حصراً على قسمة ضيزى.. ولو قبلوا دعوتكم للسلام ليتحلّقوا حول طاولة حوار وطني أو ليفعّلوا مناقشاتهم في مجلس الوزراء أو في مجلس النواب بروح وطنية جامعة لبدت كل أسباب الشقاق سخيفة في ميزان خدمة الوطن، وربما بدت ضروباً من النفاق لابتزاز أهله. وهذا دأبُ أهل السلطان والنفوذ في إدامة نفوذه وتقوية سلطانهم على من يتحكّمون بهم ويقودونهم، بحيث لا تقوم لهم قائمة وكل همّهم التسبيح بحمدهم طائعين، والكرز بنعمتهم شاكرين..
لكن.. تنازع اللبنانيين لا يهدّد الأمن الوطني.
اختلاف اللبنانيين في فهم قضاياهم لا يهدّد السلام الإقليمي..
تباين اللبنانيين لا يُصيب السلام العالمي بخطر داهم.. لا يغلق باب المندب ولا مضيق هرمز ولا قناة السويس، ولا يهدد قافلة كسر الحصار على غزة بالخطر وينتهك سلامة روادها ويهين كرامتهم..
مناوشات اللبنانيين موسميّة ولا يحلو لهم أمر إلا بالمناوشة ولا يطيب له وضع إلا بالمهاوشة.. عملاً بقول مأثور “لا يتوق القلب للقاء إلا بعد الفراق”، و”الصلحة من بعد العداوة أطيب من أكل الحلاوة”.. و”لله في خلقه شؤون”..
فهل حريٌّ بكم دعوة اللبنانيين الطيّبين للسلام؟
ألم تجد قداستكم أن مَن يهدّد السلام ليس أي لبناني مقيم أو منتشر في بلاد العالم الواسعة؟
ليس هناك لبنانيّ واحد يدمّر بيتاً في لبنان، أو يقتل بريئاً، في شماله أو بقاعه أو جبله أو ساحله أو جنوبه قط!!
ليس هناك لبناني واحد يدمّر بيتاً في غزة، أو يقتل بريئاً، في غزة الشهيدة، الصارخة دماؤها بكم وبغيركم، من قامات العالم ودوله، وأسماعهم صماء وألسنتهم خرساء وعيونهم عمياء وقلوبهم صلداء!!
ليس هناك لبنانيّ واحد يدمّر بيتاً في بيت جن، أو درعا، أو القنيطرة، أو السويداء، أو في الساحل السوريّ المستباح، ويقتل بريئاً، أو يخطف أعزل، أو عزلاء من بين ذويها او قرب باب جامعتها، ليُكثّر أمته ويزيد عديده من الأوباش المارقين، والزناة الآفكين!!
إن من يقتل ويدمّر واحد إمّا المشغِّل الأصيل الكيان الغاصب في فلسطين، أو وكيله البديل في أيّ بلد من بلادنا، في الشام وغيرها، يأتمر بأمره لنشر الخراب في الأوطان والاقتتال في البلاد، وإفقادهم المسرّة في قلوبهم والسلام في أرضهم.
فلماذا لم تتوجّه قداستكم إلى أرباب القتل، وسادة السفك، وأولياء السفح، أن يتقوا الله في عباده، ويرحموا مَن في الأرض ليرحمهم مَن في السماء؟
فلم يكن لبنان قط، واستطراداً التراث السوري المشرقي الذي ينتمي إليه، على امتداد حقبه وعصوره، سوى وطن السلام وموطن الأنبياء والرسل والقدّيسين والأولياء، دعاة المحبة والأمان والمساواة، ومنه المشرّعون الثلاثة للقانون الإنساني الذي سُمّي قانون الشعوب ونُسب إلى الإمبراطور الروماني يوستنيانوس، وهم باولوس ودورتاوس وأولبيانوس، وبفضل فلسفتهم القانونيّة أصبح للعالم اليوم قانون دوليّ يجرّم القتل والغزو والإبادة والاحتلال..
لم يحتل لبنان بلداً ولم يغزُه، بل عندما كان أبناؤه الأقدمون يجوبون الشواطئ والبحار تجاراً كانوا معلمي أبجدية ومنائر ثقافة وبناء مدن شملت البحر المتوسط كله، وكانت الشعوب تفتح لهم قبل أبواب مدنها وقراها صمّامات القلوب وأسماع الآذان لتتعلّم منهم، وقدوتهم قدموس الصوريّ. وعندما انتشر أحفادهم في بلاد العالم إثر تهجيرهم إبان الاحتلال العثماني هربوا من الفتن الطائفيّة التي أوقد نارها السلطان العثماني وشركاؤه قناصل الدول الأوروبية في سياق استراتيجية “فرّق تسد” تمهيداً لاقتسام الهلال الخصيب وزرع الكيان الغاصب في فلسطين على طريق إقامة “إسرائيل الكبرى” على حساب تسع دول: تركيا، العراق، سورية، مصر، لبنان، فلسطين، الأردن، الكويت، المملكة العربية السعودية.
وزرعُ الكيان بالاستيطان ومن ثم بالحرب المستمرة منذ العام 1922 حتى اللحظة، ولن تتوقف قبل أن تسحق إحدى القوتين الأخرى سحقاً نهائياً لا قيام لها بعده. وهذه الحرب هي حرب وجود لكل من القوتين، الاحتلال وأصحاب الأرض. ومنطق الاحتلال اعتبار الأرض قفراء من البشر، لأن أهلها كائنات عجماوات (غوييم) لا يستحقون حقوقا بشرية كحق الملكية.
ألم تصل لعنايتكم ما قاله مناحيم بيغن، قائد عصابة الأرغون الإرهابية، رئيس الوزراء السادس لكيان العدو أمام الكنيست في العام 1982 وجاء فيه: “عرقنا هو الرئيسي. نحن آلهة إلهية على هذا الكوكب.. في الواقع بالمقارنة مع عرقنا، فإن الأجناس الأخرى هي الوحوش والحيوانات، والماشية في أحسن الأحوال”.
هل يقول مسيحيّ حقيقيّ بهذه التفاهة التي تفوح كراهية وحقداً واحتقاراً لكل الآخرين، ولا تستثني قداستكم؟!!
هل يقول محمديّ حقيقيّ، والمحمديّ والمسيحيّ كلاهما مسلم لله رب العالمين، بما أنزل وأعطى من قيم السماح والخير والحب والوئام والأمان والترفع عن البغضاء والنقمة والفرقة والقتل والظلم والأذى،… هل يقول بهذا الجنون الحاقد على كل ما عداه؟!!
حتماً لا. كلاهما لا يتسافلان إلى هذا الانحطاط الأخلاقي والشذوذ النفسي.
لا يقول بهذا الحقد الحجريّ إلا يهودي صهيوني غير متنور. فالمتنور ترفّع عن اليهودية وعن الصهيونية وشنّ عليها حرباً كاشفاً خطرها فاضحاً شرها!!
هكذا يا صاحب القداسة، أنتم تكرزون بالسلام في وطن السلام والأولى بكم أن تدعوا المجرمين والقتلة إلى السلام والحبّ ليعم العالمَ الأمانُ والوئام والسكينة والطمأنينة!
ولا أرغب بتفسير دعوتكم للبنانيين بمحاكاة ما يروَّج لهم من أضاليل بقبول الاحتلال والسماح للعدو بتنفيذ مشاريع بيع عقاراتهم بأثمان عالية رغم عجزه عن بلوغها بعد حرب ستين يوماً العام الماضي (2024)، فقداستكم لا يسمح لكم مقامكم أن تسهموا بسلب أرضنا واحتلال وطننا وإهانة شعبنا وتاريخه!!
السلام هو تسليم عدونا بحقيقة وجودنا وأزليّة بقائنا الكريم واستسلامه لمنطق أن الإنسانية عافت جرائمه وتدين إبادته وترفض حقده، وأن القومية لا تقوم على كره أو حقد أو ظلم أو استسلام، بل على ثقة القوم بأنفسهم، وهم قادرون على تعزيز هذه الثقة وحماية وجودهم مهما كان الثمن.
والسلام هو ذلك الصباح الذي تصنعه سيوف الفوارس وقلوب المؤمنين بالحق، وليس غبار الجباه الذي يعفّرها ركوعاً للقوة الغاشمة لأجل ثلاثين من فضة لتبيع أرضها أو كرامتها بوهم السلام.
ونحن قوم قادرون وجديرون أن نكون حيث نستطيع أن نكون على سطح هذا الكوكب.
*ناشر منصة حرمون كاتب وإعلاميّ ومدرب.

















