على قيد لحظة، تفسّر المسافة الزمنية بين الحياة والموت، وكلاهما عند قامته المديدة العميقة الراسخة في التاريخ، قميص للنصر، في الحالين.
هنا نص متداول لكاتب لا نعرف اسمه، اقتبسناه لمذاق العبرة وبافتداء العاشق معشوقه الحبيب.. محاولة المسعف الأول الذي بلغ السيد الشهيد في النفق يصارع في المفازة الرقيقة بين النفس والسكون..
قال المسعف العاشق:
“عبرتُ إليه، تقدّمتُ، تراجعتُ، ثم اقتحمتُ العتمة والغبار والدخان، وحاولتُ أن أجلوَ عن وجهه القمريّ سموم القنابل الثقيلة..
وجدتُه متكئًا، وعليه سيماء الصلاة..
يساومه عطر الجنان على أنفاسه: خذ الجنان، وأعرني بعض عطرك…
خذ أنهارها وقطوفها الدانية..
ثَمّ هناك آيات حبّك الأجمل، ثَمّ وجه الله، ثَمّ محمد وعلي وفاطمة، ثَمّ الحسنان، ثَمّ تسعة أقمار، ثَمّ الصحب القدامى.. عباس وراغب وعماد وقاسم وثَمّ هادي قرّة العين وثمرة الفؤاد..
وصلتُ إليه، حرّكته، لم يلتفت، ناجيته، رجوته أن يفتح عينيه، أقسمت عليه بأمه كما فعلت زينب في مشهد الطفّ الأخير، أعارني همسًا من شفةٍ ناشفة.. كان قد قِبل العرض الأخير.. إنتزعتُ جهاز التنفس عن وجهي، أردتُ أن أمنحه بعض الحياة، لم يستجب، كان قد غفا للتوّ..
حاولتُ مجددًا، وددتُ لو أدلّ كل الفضاء في الخارج عليه، وددتُ لو أجتذب إليه رياح الأرض، وددتُ أن أثقب النفق نوافذ للشمس..
وددتُ لو أخبر الناس، لجاءوا يحملون قلوبهم إليه..
حاولتُ أن… لم أتمكّن..
كانت أنفاسي تخبو بجنبه رويدًا رويدًا..
أستعيدُ جهاز التنفس إلى وجهي؟!
لا، ربما ستسيقظ الرئة المتعبة بعد قليل..
بعد قليل..
أستعيدُ جهاز التنفس وأنجو؟!
لا، ربما، سيرأف بي حبيبي ويتنفّس في وجه الموت، فننجو معًا وينقشع الغبار، وتعود الحياة إلى الحياة..
كان الصوت الذي تردّد في بقايا النفق عذبًا شجيًا سخيًّا كماء الفرات: “يا نفسُ من بعد الحسين هوني، ولا كنتِ بعده أن تكوني… “.
يروي المسعفون في الخارج أنهم لمّا تأخّر صاحبهم، اقتحموا النفق خلفه، وجدوهما معًا ممددين بجنب بعضهما، وجهاز التنفس حائر بينهما، يسأل نفسه: من يستحق بعدهما أن ينالَ أنفاس النجاة؟!”.