د.منير مهنا
ستّون من العمر مضتْ، تدريبٌ شاقٌ على فهم فوضى هذا الوجود. ولا أظنّ أني سأغادر ارتباكي عفواً. إذ كيف لي أن أنجو من زمنٍ لا يستأنفُ فيه أحد وقته في هذه الرحلة المتجهة من عبورٍ الى عبور. ربما الآن على المرء أن يتقن رهافة الإصغاء الى المفاجئ، أن يستشعر القدرة الكامنة في التّخلي عن الضجيج وأن يختار مخبأً جيداً ليحمي روحه من أسئلة بلا معنى ومن أجوبة هي مجرد استدعاء للوهم وتأويل ساكن لحقيقة متحرّكة.
وهذه الحياة أصداء وأقدار. وما الأعمار سوى تأريخ تؤرشفه الذاكرة على أشكال مختلفة من الحضور والغياب. وتصبح فيه السيرة فسحة للانبثاق بين الماضي والحاضر وما تقتضيه الصدفة من مشابهات ومفارقات. هكذا أجد نفسي منساباً بين ما أشهد عليه وما يشهد عليَّ، وما أوجدني وما تآلفت في وجوده.
ومع أعوامي الستين صارت تجاربي تُلفتني لمزيد من التأمل بالأمس وأحداثه، ما اختبرته يبدو كمشهد ينكشف حجاب معناه، فإذا بي على تماس مع تجليات المتهالك والعشوائي والمتواري والمبعثر من لحظاتي. أنا الساكنُ في محاورة المواعيد وعلى نواصي الانتظار.
كلنا نحاول أن نخترع الحياة بإخلاصنا للزمن، لكنَّ الزمن مجبول على امتصاص الفراغ واعتقال المؤقت. لا خرائط ثابتة كي نملأ مذكراتنا بما يناسب دروب الحلم، لا دهشة مستدامة لتمنحنا فرصة أن نصلّي في حدائق المطر وبما يلذُ به التسكّع بين شلّة من المتسكّعين، كل ما نحصل عليه بقايا أقدام على أرصفة تتعرق من رائحة العابرين فوق غربتها. تسابقوا وعبروا الشقوق في جدار بينما الزمن يستكمل العربشة على بقاياه، كي يستوطنه ويمحي أثرهم.
وما أندر الحياة لولا الأمل، ذاك الآتـي من سرديات تحمل القليل من “الحقيقة” والكثير من التباساتها، تقوده تعرجات الحذف والإضافة الى الأعماق التي لم تهجر طفولتها، وتأخذه الى مصافي الوعي الذي لا يقع في شرك العبثي والهامشي وتقلباته، حيث الشكّ تعديل على تملق اليقين بيقينه، والخوف فكرة لا تخجل من اغتصاب النفس التي تهمل سعيها للمفارقة، وما من مفارقٍ إلا وهو متفرّق بين ما يعرف وما لا يعرف، وما من جهل إلا وفيه احتواء يتدفّق من المظنون الى المكنون.
ستون من العمر مضتْ وأنا ما زلت أتغرّب عن نفسي ولا يقين عندي كيف أتقّرب منها، كتائهٍ يحاولُ أن يفتح باب المدينة لعودته.
15/9/2024
..وتهنئة من حرمون
يهنئ ناشر منصة حرمون الكاتب والإعلامي هاني سليمان الحلبي، وأسرة المنصة، الدكتور الصديق منير مهنا، بعيد ميلاده الستين. ألف مبارك.