في كلّ مرة تتعقد فيها الأوضاع الداخلية في لبنان نجد من ينبري لطرح التقسيم المقنّع أو الصريح حلاً لأزمة النظام، هذا النظام الذي لم يحقق في الواقع استقراراً للبنان منذ اعتماده في مطلع العشرينات بعدما أنشئ لبنان الكبير بقرار من المفوّض السامي الفرنسي وبعد أن اعتمد له دستور في العام 1926 استوحي من دستور الجمهورية الثالثة في فرنسا الدولة التي انتدبت على لبنان لتبني فيه دولة وتمرّس أبناءها على حكم أنفسهم بأنفسهم.
اليوم ومع استعصاء الوصول لحلّ في إعادة تكوين السلطة في لبنان واستمرار خلو رئاسة الجمهورية لأكثر من 8 أشهر وتشكل أخطار جسيمة تنذر بانهيار الدولة في لبنان بشكل كلي، خاصة أنّ ظواهر هذا الانهيار بدأت تتشكل وتتسارع انطلاقاً من الفراغ السياسي وما يواكبه من انهيار مالي واقتصادي وإنذار بانهيار أمني… مع هذا الوضع الذي ارتسم للبنان انطلقت أصوات من اطراف سياسية لبنانية يدعو بعضها الى لامركزية إدارية ومالية موسّعة، وأصوات أخرى تدعو الى تقسيم لبنان الى أقاليم أو مقاطعات يُعاد ربطها بنظام فيدرالي، وفئة ثالثة تدعو أو تهدّد بوقوع الطلاق البائن بين الطوائف اللبنانية وتقسيم لبنان على أساس ديني يستقلّ كلّ مذهب أو طائفة فيه بإقامة دولة له لا يربطها بالآخرين رابط… طروحات قد يجد فيها البعض تسلية واستهلاكاً للوقت لا يستأهل الردّ خاصة أنّ أصحابها لا يملكون القدرة اللازمة لتنفيذ ما يطرحون، ويجد البعض الآخر فيها مشاريع تهدّد لبنان فعلياً في وحدته وأمنه واستقراره.
ومع تقديرنا لموقف المستخفّين بهذه الطروحات وحججهم، فإننا نجد المتخوّفين من هذا الأمر على قدر من الحق في تخوّفهم خاصة إذا ربطنا الطروحات تلك بالاستراتيجية الأميركية المعمول بها في المنطقة والتي تقوم على فكرة “الفوضى الخلاقة”، وتتضمّن التجزئة وتفتيت المجتمعات على أساس عرقي أو طائفي تستشري فيها النزاعات والاحتراب الداخلي وصولاً الي إقامة الكيانات الواهنة المستقلة علي أساس عرقي أو ديني تفسّر لـ “إسرائيل” ما تريده لنفسها من هوية دينية تبرّر لها إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين. هذا الربط يجعلنا نهتمّ بهذه الطروحات لنقف على حقيقتها ونتائجها ومفاعيلها ونجيب على سؤال أساسيّ: هل تشكل حلاً لمعضلة لبنان؟
بداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك خيطاً رفيعاً يفصل بين الفيدرالية وبين اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، التي تختلف جذرياً عن اللامركزية الإدارية المنصوص عليها في اتفاق الطائف. اذ ان الطائف يحفظ وحدة الدولة وشكلها البسيط بينما الصيغة الفيدرالية تنشئ الدولة المركبة التي لا ترتبط مكوناتها الا بمسائل الدفاع والمال والخارجية، وإذا جعلنا المالية أيضاً خارجاً فلا يبقى إلا الدفاع والسياسة الخارجية وإذا حدّقنا بالخلاف القائم في لبنان على السياسة الخارجية والاستراتيجية الدفاعية والانقسام العمودي القائم حولهما لوصلنا بكلّ بساطة الى القول بأنّ أيّ فدرالية أو لامركزية مالية وإدارية موسّعة تعتمد في لبنان لن تكون إلا تقسيماً للدولة الى كيانات لا يربطها رابط، وتكون في الحقيقة والواقع ترجمة فعلية للاستراتيجية الأميركية المعدّة للمنطقة والقائمة على منطق التقسيم والتفتيت الذي يليه التناحر والاقتتال. فهل التقسيم بأيّ شكل وصيغة من الصيغ ممكنٌ في لبنان؟
من الناحية العملية نقول إنّ أيّ مراجعة لشكل الدولة عندنا او لدى سوانا بشكل عام، يتمّ بوجه من وجهين إما بالغلبة اثر اقتتال حيث يفرض فريق رابح رأيه على فريق خاسر، او بالاتفاق والتفاهم الذي يتمّ الوصول إليه نتيجة حوار وتفاهم بين الأطراف المعنية. وفي الواقع اللبناني ومن غير تجاهل او مكابرة، نجد انّ الحوار اليوم بين اللبنانيين موصدة ابوابه، واذا فتحت فإنها لن تفتح على مناقشة “نهائية الكيان” اذ انه بعد اتفاق الطائف وما تمّ فيه من اعتماد توصيف انّ “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه” (العبارة التي أطلقها الإمام موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين) نجد أكثرية لبنانية تتمسك بهذه النهائية وترفض المسّ بها أيّاً كان المحرك او السبب. ما يعني انّ إمكانية الحوار لمراجعة شكل الدولة غير متوفرة، فتبقى الغلبة فهل يكون الاقتتتال طريقاً الى التقسيم؟
سؤال لا بدّ من مناقشته خاصة أنّ الفريق الذي يدعو إلى التقسيم او الفيدرالية له من الارتباطات الخارجية ما يجعل خطر الاقتتال جدياً في ظلّ تماهي الموقف مع الاستراتيجية الأميركية كما ذكرنا ولهذا، ورغم أنّ إمكانات دعاة الفيدرالية والتقسيم إمكانات محدودة في الميدان إلا أنّ هذه المحدودية لا تمنع “الانتحاريين” من سلوك طريق يعرفون مسبقاً مخاطرها ومدى الخسائر التي تلحق بهم وبمجتمعهم بسببها وتاريخ لبنان الحديث زاخر بالشواهد على المغامرات الانتحارية.
وعليه ومع تأكيدنا أنّ طرح التقسيم اليوم وبأي صيغة كانت (لامركزية إدارية ومالية موسّعة او فيدرالية او… تقسيم ناجز) إنما هو سلوك يتماهى مع المشروع الصهيوني وتنفيذاً للاستراتيجية الأميركية المعدّة للمنطقة ودعوة لاقتتال وتناحر داخلي لن يدفع ثمنه إلا اللبنانيون بشكل عام ولن يكون دعاته بمنأى عن خطره لا بل سيكونون الأكثر تضرّراً منه، نقول هذا مع تأكيدنا على الصعوبات العملية والتنفيذية التي ستؤدي الى حرمان ربع اللبنانيين على الأقل من حقوقهم المواطنية حيث سيتحولون الى أقليات في أقاليم سواهم. فضلاً عن تعقيدات رسم الحدود بين الأقاليم.
إن الحل في لبنان لن يكون بالتقسيم بأي صيغة بما فيها الفيدرالية او اللامركزية المالية والإدارية الموسعة، بل يكون أولاً بالعودة الى الدستور وتطبيقه خاصة في المواضيع المعطلة او المقزمة او المحرفة وأكثر تحديداً في مواضيع وردّ النص الدستوري او اتفاق الطائف عليها خاصة مسائل اللامركزية الإدارية والتنمية المتوازنة ونظام المجلسين شيوخ ونواب وإلغاء الطائفية السياسية وتفعيل المجلس الدستوري ليعطى صلاحية مراقبة تطبيق الدستور وتفسيره، ومنها أيضاً تحديد مهل التوقيع لكل من يلي أعمال السلطة التنفيذية (رئيس جمهورية وحكومة ووزراء). ووقف العمل ببدعة الديمقراطية التوافقية أو الميثاقية، ايّ انّ الحل يكون بإصلاح ما هو فاسد أو معطل وليس بابتداع نظام تقسيميّ تناحريّ تكون من نتائجه السريعة هدم ما تبقى وتهجير من بقي…