عبدالرضا الحميد*
عند دنو منيته في صحراء الربذة، وما في مسكنه كفن أو قميص لتكفينه، قال الماشي بزهد بن العذراء مريم؛ أبو ذر الغفاري، الذي يعيش وحده، ويموت وحده، وتقوم قيامته، يوم الدين، وحدَه: انظري إلى ناحية العراق، مشترطا عليها، أن يكفن بقميص احد أفراد قافلة آتية، شرط ألا يكون أميراً، من أمراء الدولة حينها، ولا أن يكون قائماً بأمر أمير، ولا جالساً بأمر أمير، ولا ذاهباً وآتياً بأمر أمير، ولا مرتزقاً من أمير.
لم تجد أرملته، في قافلة عبدالله بن مسعود الآتية من العراق، غير صبيّ تبرّع بقميصه، صبيّ لم يتلوّث قميصه بالإمارة وأسبابها وتضاعيفها وأوساخها.
لم يفعل الغفاري الربذي ذلك، إلا ليقينه بأن الإمارة خانت الإسلام المحمديّ عندما حوّلته من دين الناس إلى دين المال، ومن دين الهداية إلى دين الغزو والاغتنام.
والإسلام لم يكن في عقيدة الغفاري ديناً حسب، بل وطن الأوطان، ومحبة الوطن إيمان وخيانته جريمة، ولا جريمة من دون قصاص.
أقول لكم، إن ما من كرامة هدرت في العراق، ولا عزة ديست، ولا مئذنة هدمت، ولا كنيسة أخرست، ولا عراقية اغتصبت أو امتهنت، ولا ثروة ضاعت، ولا مدرسة سفهت، ولا جامعة جهلت، ولا حياة دمرت، ولا ارض جفت، ولا سماء غضبت، ولا عراقي ذبح، ولا بيت هتك، ولا عائلة تشتتت، إلا بسبب خونة العراق؛ من الآتين بخرقهم الباليات وراء دبابات الغزاة الأعداء، ومن عمل منهم مع الغزاة، أو صافح الغزاة، أو قام وقعد بأمر الغزاة، أو ارتزق من الغزاة، أو هادن الغزاة، أو ابتسم أمام الغزاة، أو تنحّى جانبا كي يمرّ الغزاة، أو دب دبيب الخنافس أمام الغزاة، وصال صولة اليرابيع على أبناء جلدته.
هؤلاء ما تركوا عرضاً إلا عرّضوا به، ولا شرفاً إلا حطّوا منه، ولا مقدساً إلا سفهوه، ولا مالاً إلا نهبوه، ولا أثراً إلا أثروا به، ولا شاة إلا شاتوها، ولا بقرة إلا بقروها، ولا آدمياً إلا نكلوا به، ولا ضيعة إلا أضاعوها، ولا زرعاً إلا داسوه ولا ضرعاً إلا حلبوه، ولا منزلاً إلا نزلوا به، ولا صوتاً إلا كتموه، ولا طالب حق إلا قتلوه، ولا حق إلا أبطلوه ، ولا موبقة إلا أتوها، ولا خزي إلا دجنوه، ولا عاراً إلا تجلببوه، ولا قبيحة إلا جملوها، ولا شباباً إلا ضيعوه.
هؤلاء الخونة، يحق بهم القصاص، فلا منجاة للعراق من دون القصاص بهم.
قال جل وتبارك في علاه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقّ).
وقال: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وقال جل جلاله: (يَا أيهَا الذينَ آمنُوا لا تخونُوا اللهَ والرسولَ وتخونُوا أماناتكُم وأنتُم تعلمونَ).
وحذر تبارك وتعالى من جعل الأعداء والغزاة أولياء أمر: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
وقال عز من قائل: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوّان كفور).
وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم أنه قال: “من أعان ظالماً بباطل ليدحض بباطله حقاً فقد برئ من ذمة الله تعالى وذمة رسوله”.
وقال سلف صالح:
أما التعاون مع (الأميركيين والانكليز والفرنسيين ومن دار في فلكهم) بأيّ نوع من أنواع التعاون، قلّ أو كثر، فهو الردّة الجامحة، والكفر الصّراح، لا يُقبل فيه اعتذار، ولا ينفع معه تأول، ولا تنجي من حكمه عصبية حمقاء، ولا سياسة خرقاء، ولا مجاملة هي النفاق، سواء أكان ذلك من أفراد أو حكومات أو زعماء. كلهم في الكفر والردة سواء، إلا من جهل وأخطأ، ثم استدرك أمره فتاب وأخذ سبيل المؤمنين، فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم، إن أخلصوا من قلوبهم لله لا للسياسة ولا للناس..”
وقال: “ولا يجوز لمسلم في أيّ بقعة من بقاع الأرض أن يتعاون معهم بأي نوع من أنواع التعاون، وإن التعاون معهم -أي الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين ومن دار في فلكهم – حكمه حكم: الردة والخروج من الإسلام جملة، أياً كان لون المتعاون معهم أو نوعه أو جنسه”.
وتروي وقائع التاريخ، أن ضابطاً نمساوياً تقرّب عقب انتهاء إحدى المعارك من نابليون بعد أن سرّب إليه معلومات أعانته على كسب معركته ضد وطنه، وكان يبتغي قبض ثمن خيانته، فرمى نحوه نابليون صرة من الذهب باحتقار، فقال النمساوي بوضاعة: ولكني أريد أن أحظى بمصافحة يد الإمبراطور، فقال له نابليون: يدي لا تصافح الخونة.
لن يبرأ الخونة من جريمة الخيانة بتقادم الزمن ولا بالصلاة في كل مساجد الأرض ولا بصوم كل الزمان ولا بالحجّ لبيت الله تعالى ألف مرة، ولا يُطهرهم زمزم ولو اغتسلوا فيه أناء الليل وأطراف النهار.
الخونة، أبارهة، ولا أبارهة بلا قصاص، كما يقول شاعرنا الكبير جواد الحطاب:
كانت مكّة بلاد الله
ولم يكن إبرهة الحبشي رجلاً منها
ويوم قاد الأفيال إليها
هاجمه الله بطيور أبابيله
ملعونٌ
ملعونٌ
ملعونٌ
من دلّ الأفيال على أيّ وطن
…
ما كان ابرهة رجلا من مكّة
حبشياً كان
ومكة: مكة
لكن الأبارهةَ الجُدَدِ
كانوا عراقيين
قادوا الدبابات على “رقم الطين”
الى “شارع الموكب”
ملعونٌ
ملعونٌ
ملعونٌ
من كان دليلَ الدباباتِ الى وطنه ؟!!
…
قد نغفر للدبابات
(قد.)
لكنّا لن نغفر للآتين على ظهورها!!
*روائي وصحافي عراقي
رئيس تحرير الصحيفة العربية – بغداد
رئيس اللجنة الشعبية العراقية لنصرة سورية والمقاومة.