مأمون ملاعب
ما أن حطّت الحرب العالمية الثانية أوزارها وانتصر الحلفاء على النازية والفاشية حتى انقسم العالم الى معسكرين أساسيين بثقافتين متناقضتين: الليبرالية والشيوعية ودخل العالم الحرب الباردة بين المعسكرين تخللتها الحرب الكورية وحرب فيتنام وأزمة كوبا وحروب الشرق الأوسط.
الفترة الزمنية الممتدة من 1945 حتى اليوم مهّدت لما وصلنا إليه حالياً… دول المعسكر الاشتراكي تبنّت حكم الحزب الواحد الحاكم كما في الاتحاد السوفياتي وهو الذي فرضه على كلّ دول أوروبا الشرقية. انتفت معه الحريات الشخصية وتقلص دور الفرد لا في السياسة وحسب، بل في الإعلام والأدب والفن والتعبير وحتى الهواية، تقلصت الملكية الفردية بل ذابت فانتهى القطاع الخاص ومسكت الدولة الاستيراد والتصدير والتصنيع والتربية والمدارس والإعلام والاستشفاء والجمعيات والروابط، وأقامت سوراً كبيراً حول الحدود يمنع الخروج من الدولة ويتحكم بالدخول إليها ونظام تشويش يمنع الإعلام الخارجي من الوصول الى آذان المواطنين.
اتخذت الشيوعية قيَماً جديدة، بعد رفضها الدين وتبنّيها المادية. أصبح النظام، الدولة، هو القيمة العليا وفي غياب الطبقة البورجوازية والصراع الطبقي اعتبرت المساواة بين الأفراد قيمة إنسانيّة أولى، أما قيمة الفرد كإنسان فقد تدنّت كثيراً إلى حدّ التلاشي، وحرمت القيم الجماعية من قومية، دينية، عائلية، لغوية وغيرها.
اعتبرت الدولة الشيوعية أنّ العدالة تتحقق من خلال المساواة الاقتصادية بين الأفراد فعملت على تحقيقها وأمّنت الحدّ الأدنى للمعيشة. تساوى الناس بالفقر.
المساواة بين الناس أمر مخالف للطبيعة. لا يتساوى الأفراد لا بالقدرات ولا بالإمكانيات العقلية او الجسدية او النفسية. هم خلقوا مختلفين، متميّزين، المساواة لا تحقق العدالة بل تقلص المبادرة ومن ثم الإبداع إذ تلغي الطموح.
نجحت الدول الشيوعية بتأمين التعليم للجميع وقضت على الأمية وتأمين الاستشفاء والسكن فخلت من المشرّدين والمتسوّلين لكنها بتقييدها حرية الفرد وإلغاء ملكيته وحب الفرد للتميّز قضت على المبادرة والطموح فتحوّل الحلم عند الأفراد نحو “الحلم الأميركي” والهمّ الأول لهم (بشكل عام) هو المغادرة أو التخلص من النظام وهو ما شاهدناه بانتفاضات في المجر وتشيكوسلوفاكيا وبولندا. كان جدار برلين شاهداً على ألوف محاولات الهرب نحو ما اعتقدوه ملاذ الحرية.
تقلص الاقتصاد في كلّ الدول الاشتراكية وتقلصت الصناعة وتقلص مستوى الحياة بالمجتمع وعند الأفراد. فما أن انهار جدار برلين حتى خرجت دول أوروبا الشرقية الواحدة تلو الأخرى من النظام السابق نحو الرأسمالية وسقطت الأنظمة وحوكم المسؤولون.
حكم الشيوعيون الاتحاد السوفياتي أكثر من سبعين عاماً ودول أوروبا الشرقية خمسة وأربعين عاماً ومع سقوط الأنظمة عادت روسيا أرثوذكسية، وبولندا كاثوليكية وكازاخستان إسلامية سنية وأذربيجان شيعية و… وعادت المشاعر القومية إلى السطح وتضارب المصالح في أجزاء ما كان جسماً واحداً إلى البروز فوقعت الحرب بين أرمينيا واذربيجان وتمرّدت جورجيا على روسيا بل عادَتها وانتقل العديد من دول أوروبا من حلف وارسو سابقاً إلى الحلف الأطلسي وأخيراً أوكرانيا.
خلاصة الموضوع أنّ القيم التي وضعتها الشيوعية زالت لتعود القيم ما قبل الشيوعية وتحتلّ الساحة وأنّ النظام الذي عاكس الطبيعة البشرية حوّل أهل الدول الرافضة والواقعة تحت الحكم السوفياتي من أعداء النظام إلى أعداء لروسيا بردّ الفعل ودون وعي.
في المقابل خرجت الولايات المتحدة من الحرب رابحاً أكبر. لم تتعرّض بناها التحتية إلى التدمير وكذلك اقتصادها، وتحوّلت أوروبا الغربية كما اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين والبحر الصيني إلى قواعد لها. أما الأهمّ فكان اتفاقية بريتون وودز 1944 التي جعلت الدولار الأميركي عملة الاحتياط في العالم. مع سقوط جدار برلين انتهت الحرب الباردة ليدخل العالم مرحلة عصيبة من التاريخ مليئة بالأزمات والكوارث والظلم والظلام مرحلة سيادة الولايات المتحدة…
(البناء)