جبران خليل جبران*
مات أهلي وأنا على قيد الحياة أندب أهلي في وحدتي وانفرادي.
مات أحبائي وقد أصبحت حياتي بعدهم بعض مصابي بهم، مات أهلي وأحبائي وعمرت الدموع والدماء هضبات بلادي، وأنا هاهنا أعيش مثلما كنت عائشا عندما كان أهلي وأحبائي جالسين على منكبي الحياة وهضبات بلادي مغمورة بنور الشمس.
مات أهلي جائعين، ومن لم يمت منهم جوعا فني بحدّ السيف، وأنا في هذه البلاد القصية أسير بين قوم فرحين مغبوطين يتناولون المآكل الشهية والمشارب الطيبة وينامون على الأسرّة الناعمة ويضحكون للأيام والأيام تضحك لهم.
مات أهلي أذل ميتة، وأنا هاهنا أعيش في رغد وسلام وهذه هي المأساة المستتبة على مسرح نفسي. لو كنت جائعا بين أهلي الجائعين مضطهدا بين قومي المضطهدين لكانت الأيام أخف وطأة على صدري، والليالي أقل سوادا أمام عيني. لأن من يشارك أهله بالأسى والشدة يشعر بتلك التعزية العلوية التي يولدها الاستشهاد، بل يفتخر بنفسه لأنه يموت بريئا من الأبرياء ولكني لست مع قومي الجائعين المضطهدين، السائرين في موكب الموت نحو مجد الاستشهاد، بل أنا هاهنا وراء البحار السبعة أعيش في ظل الطمأنينة وخمول السلامة. أنا هاهنا بعيد عن النكبة والمنكوبين ولا أستطيع أن أفتخر بشيء.
وماذا عسى يقدر المنفى البعيد أن يفعل لأهله الجائعين. ليت شعري، ماذا ينفع ندب الشاعر ونواحه؟
لو كنت سنبلة من القمح نابتة في تربة بلادي لكان الطفل الجائع يلقطني ويزيل بحياتي يد الموت عن نفسه، لو كنت ثمرة يانعة في بساتين بلادي لكانت المرأة الجائعة تتناولني وتقضمني طعاما.
لو كنت طائرا في فضاء بلادي لكان الرجل الجائع يصطادني ويزيل بجسدي ظل القبر عن جسده. ولكن، وامُرّ قلباه، لست بسنبلة من القمح في سهول سوريا، ولا بثمرة يانعة في أودية لبنان وهذه هي نكبتي.
هذه هي المأساة الموجعة التي تعقد لساني وتكبل يدي ثم توقفني بلا عزم، ولا إرادة ولا عمل.
يقولون لي ما نكبة بلادك سوى جزء من نكبة العالم، وما الدموع والدماء التي أهرقت في بلادك سوى قطرات من نهر الدماء والدموع المتدفقة ليلا ونهارا في أودية الأرض وسهولها.
نعم.. ولكن نكبة بلادي نكبة خرساء. نكبة بلادي جريمة حيلت بها رؤوس الأفاعي والثعابين. نكبة بلادي مأساة بغير أناشيد ولا مشاهد.
لو ثار قومي على حكامهم الطغاة وماتوا جميعاً متمردين لقلت إن الموت في سبيل الحرية أشرف من الموت في ظلال الاستسلام.. ومن يعتنق الأبدية والسيف في يده كان خالدا.
لو اشتركت أمتي بحرب الأمم وانقرضت عن بكرة أبيها في ساحة القتال لقلت هي العاصفة الهوجاء تصهر بعزمها الأغصان الخضراء واليابسة معا.
ولو زلزلت الأرض زلزالها وقلبت ظهر بلادي صدرًا وغمر التراب أهلي وأحبائي لقلت هي النواميس الخفية تتحرّك بمشيئة قوة فوق قوى البشر، فمن الجهالة أن نحاول إدراك أسرارها وخفاياها، ولكن لم يمت أهلي متمردين ولا هلكوا محاربين، ولا زعزع الزلزال بلادهم
ماتوا وأكفهم ممدودة نحو الشرق والغرب وعيونهم محدقة بسواد الفضاء.
ماتوا صامتين لأن آذان البشرية قد أغلقت دون صراخهم، ماتوا لأنهم لم يحبّوا أعداءهم كالجبناء ولم يكرهوا محبيهم، ماتوا لأنهم لم يكونوا مجرمين، ماتوا لأنهم لم يظلموا الظالمين، ماتوا لأنهم كانوا مسالمين، ماتوا جوعاً في الأرض التي تدرّ عسلا. ماتوا لأن الثعبان الجهنمي قد التهم كل ما في حقولهم من المواشي وما في أحراشهم من الأقوات، ماتوا لأن الأفاعي أولاد الأفاعي قد تنفسوا السموم في الفضاء الذي كانت تملؤه أنفاس الأرز وعطور الورد والياسمين.
مات أهلي وأهلكم أيّها السوريون، فماذا نستطيع أن نفعل لمن لم يمت منهم؟
إن نواحنا لا يسد رمقهم، ودموعنا لا تروي غليلهم، إذن ماذا نفعل لننقذهم من الجوع والشدة؟ هل نبقى مرتابين، مترددين، متكاسلين، مشغولين عن المأساة العظمى بتوافه الحياة وصغائرها؟ إن العاطفة التي تجعلك، يا أخي السوري، تعطي شيئا من حياتك لمن يكاد يفقد حياته هي الأمر الوحيد الذي يجعلك حريا بنور النهار وهدوء الليل. وأن الدرهم الذي تضعه في اليد الفارغة الممدودة إليك هو الحلقة الذهبية التي تصل ما فيك من البشرية بما فوق البشرية.
*جبران خليل جبران، مجلة الفنون عام 1917.