ناصر قنديل
- في الجولة الخامسة عشرة من انتخابات رئاسة مجلس النواب الأميركي نجح المرشح الجمهوري كيفن مكارثي بالحصول على حافة الفوز بـ 216 صوتاً، واحتفل بنيل لقب رئيس مجلس النواب والإمساك بالمطرقة، لكن ذلك لا يعني أن الأزمة التي عصفت بمجلس النواب والكتلة الجمهورية فيه كانت أزمة عابرة وقد طواها فوز مكارثي، والأزمة هي الأولى منذ عام 1923 وقد تجاوزتها بعدد الجلسات التي سبقت جلسة الانتخاب الأخيرة، ومثلما كان الخروج من أزمة 1923 مشروطاً بقبول قيادة الحزب الجمهوري ومرشحه للرئاسة فريديريك جيليت بقبول شروط الكتلة الجمهوريّة التي ربطت منح أصواتها بالحصول على مطالب ومكاسب غيّرت قواعد العمل في المجلس وفي الكتلة الجمهورية، فإن فوز مكارثي جاء مقروناً بمفاوضات مستمرّة تراكمت خلالها المكاسب والمطالب التي حصلت عليها الأقلية الجمهورية التي رفضت منح تصويتها لمكارثي دون هذه المطالب والمكاسب، وصولاً لجلسة الانتخاب الأخيرة، ولم تفلح تدخلات الرئيس السابق دونالد ترامب في دفعها لقبول التصويت دون هذه المطالب.
- الخلفية التي تجمع المتمرّدين في الحزب الجمهوري لا يمكن اختصارها بدعمهم للرئيس السابق دونالد ترامب، الذي انضمّ منذ الجولة الخامسة في الإنتخابات الى معسكر الداعين لانتخاب مكارثي دون أن يتمكن من إقناع المتمرّدين بفعل ذلك، وأبرز ما يجمع هؤلاء هو نقمتهم على من يسمّونهم جماعة واشنطن في الحزبين، أي القيادة السياسية التقليدية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، التي يصفونها بالمنافقة والمتملقة واللامبدئية، والتي تقيم المساومات وتعقد الصفقات في الغرف المغلقة وتتولى تسيير شؤون الدولة في غرف مظلمة لعقود طويلة، ويعتقدون أن جماعات الضغط التي تمدّ ايديها الى جيوب نواب الحزبين تشكل الحاكم الفعلي، وأن شركات التكنولوجيا والسلاح والنفط هي التي تمسك بأغلبيتي الديمقراطيين والجمهوريين، ولذلك لا يتغير شيء بانتقال الأغلبية من ضفة إلى ضفة، ويؤمنون بوجود أقلية تشبههم في الحزب الديمقراطي تشعر بالعجز الذي يشعرون به، ولذلك هم وجدوا في انتخابات رئيس المجلس مع أغلبية جمهورية هشّة فرصتهم لانتزاع تعديلات على كيفية إدارة العمل التشريعي، تتيح إسماع صوت الأقليات وتمنحها في حالات معينة حق الفيتو، ويعتبرون أن إعادة العمل بقانون إتاحة المجال لنائب واحد بطرح الثقة برئيس المجلس في منتصف ولايته عنصر ضغط على الرئيس لعدم تجاهل الأقلية التي تستطيع إعادته الى مربع الفشل الانتخابي اذا طرحت الثقة به مجدداً بعد عام، وعدم التجاهل يعني الحرص على التشاور والتوافق قبل أي خطوات هامة يمكن اتخاذها في مجلس النواب.
- القضايا التي يتمسّك المتمرّدون بالشراكة فيها تبدأ من الاعتراف بأن في الحزب الجمهوري كتلتين يجب التشاور بينهما على الأولويات التشريعية بمعزل عن كون إحداهما بمئتي صوت والثانية بعشرين صوتاً، ومنها قضايا التشريع التي يملك المتمردون موقفاً مختلفاً فيها عن قيادة الحزب الجمهوري وأغلبية نوابه، قضيتان رئيسيتان، الأولى هي رفضهم لرفع سقف الدين، والدعوة لمعالجة الأزمة الاقتصادية عن غير طريق اللعبة المالية والنقدية التي تحقق الأرباح للاعبين الكبار في الأسواق المالية والمصرفية، عبر رفع الفوائد وزيادة الديون، بدلاً من الاستثمار في البنى التحتية والصناعة والزراعة والمشاريع العقارية، والثانية هي رفضهم للتمويل المفتوح للحرب في أوكرانيا، وقد حصلوا على التزام من مكارثي بإخضاع أي بحث في هذين العنوانين للتشاور المسبق وربط أي تحرّك سلبيّ أو إيجابي تشريعياً بالتوافق، وبالتوازي حصلوا على التزام يضمن لهم عدم تمويل صندوق الحزب المالي لمرشحين جمهوريين ينافسونهم في دوائرهم الانتخابية، لأن هذا العقاب كان ما يحصل عليه كل من يحاول التمرّد على القيادة التقليدية الجمهورية.
عملياً سنجد أنفسنا أمام أربع أقليات في مجلس النواب، أقليتان لكل حزب، والأمر لن يطول لتنتقل العدوى إلى مجلس الشيوخ، فالأقليات التي تشعر بالغبن موجودة في الحزبين والمجلسين، والسابقة التي تم تسجيلها في الدورات الانتخابية لمجلس النواب، نتاج طبيعي لفشل السياسات وعجز الاقتصاد وتراجع المهابة والمكانة، وانحدار مستوى القيادة، وتنازع الولايات على التمويل، وكما الهجوم على الكابيتول وعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، مجرد علامات على شيخوخة النموذج الأميركي وعجزه، تفتت الكتل الحزبية علامة إضافية على أن زمن البحبوحة قد ولّى، وزمن القبضة الحديدية داخل النخب الحاكمة يتفكك.