الدكتور نشأت كيوان لـ “حرمون”: تأطير سورية بحدودها السياسية الحاليّة اجتزاء غير واقعيّ لمنجزات شعبها وتقزيم مكانتها وانتقاص من دورها القومي وهويتها الثقافيّة

* علم الآثار أثبت أن أهلنا في سورية وبخاصة في جبل حوران كانوا هنا منذ آلاف السنين وآثارهم تدلّ على ذلك بل وتثبت أننا شعب متجذّر في هذه الأرض.

* النسيج السوري الاجتماعي والديموغرافي استطاع عبر آلاف السنين أن يشكّل وحدة حضاريّة تؤسس للتعايش بين الشعوب لذلك ما نراه اليوم هو استثناء لقاعدة المحبة والسلام الذي اعتاد السوريون أن يمارسوها.

* احذروا من التاريخ فكما دوّن قصص الأولين سيذكر مَن كان صانعاً لحضارة هذا البلد أو ساعياً لتهديم كل قيم الجمال الإنسانية.

تقديم هاني سليمان الحلبي

كانت إدارة منصة حرمون أعلنت عن برنامج “مقابلات 2025” في مواكبة لمئوية الثورة السورية الكبرى، وزاد البرنامج غنًى بالتوأمة التي انعقدت مع مركز سميح للتنمية والثقافة والفنون، منذ سنتين، لمواكبة هذه المئوية التي تأبى إلا أن تعمّدها الدماء والنار، لتأكيد طابعها وهويتها القومية والوطنية، وأجريت عشرات المقابلات سيكون لها إنْ شاء الله حظٌّ بنشرٍ في كتاب مستقل.

وهذه المقابلة مع خبير أثريّ وأستاذ جامعيّ متخصّص تولى إدارة متحف السويداء ومتحف شهبا وترأس العديد من ورش التنقيب في مواقع أثريّة عدة داخل محافظة السويداء، هو الدكتور نشأت كيوان مقدّماً نفسه متحدثاً باختصار عن نشأته وكيف كوّن من ظروفه ومواجهته قصة نجاح توّجها بأطروحة دكتوراه وتولّيه مسؤوليات رسمية وتعليمية وإدارية هامة، يشدد الدكتور كيوان عبر “حرمون” على أن “تأطير سورية بحدودها السياسية الحاليّة اجتزاء غير واقعيّ لمنجزات شعبها وتقزيم مكانتها وانتقاص من دور سورية القومي وهويتها الثقافيّة”، وأن قيم “النسيج السوري الاجتماعي والديموغرافي الذي استطاع عبر آلاف السنين أن يشكّل وحدة حضاريّة تؤسس للتعايش بين الشعوب لذلك ما نراه اليوم هو استثناء لقاعدة المحبة والسلام الذي اعتاد السوريون أن يمارسوها”، وحدها هذه القيم هي الصراط المستقيم لاستعادة سورية الأصالة والعراقة والمجد والحضارة وليست أي قيم ومسالك غيرها. وتوجّه عبر “حرمون” إلى الحذر من التاريخ الذي كما يدوّن أهل الإنجازات كذلك لا يتغافل عمن أساؤوا لشعوبهم ولا لتاريخها، فينصف كل فئة من الفئتين.

حوار شيّق وغنيّ بالتجربة والخبرة جدير بالقراءة..

إعداد وتنسيق ميساء عبدالله أبو عاصي

‏1- حبذا تعريف زوار ومتابعي موقع حرمون عنك؟

– أنا الدكتور نشات كيوان حامل دكتوراه في الآثار الكلاسيكية والعربية الإسلامية، ومدير آثار محافظة السويداء سابقاً ومدير لمتحفَيْ السويداء وشهبا. محاضر في جامعة دمشق في كليتي الآداب الثانية والفنون الجميلة الثانية، وأعمل الآن مديراً للتنقيب والدراسات الأثريّة في مديرية آثار السويداء.

2- اخترتم علم الآثار تخصصاً علمياً، ما أسباب اختياركم؟ ما أهميته لسورية وللثقافة؟ وكيف نستدل على الشخصية القومية لسورية من خلال علم الآثار بعيداً عن التفكير الحزبي والنزعات السياسية؟

– علم الآثار من أجمل وأمتع العلوم الإنسانية من الناحيتين العلمية والمهنية، ويُقدّم لنا فهماً جيداً وعميقاً عن التاريخ الحضاريّ لسورية ودورها في التراث الثقافي الإنساني نظراً لما قدّمته للبشريّة من إنجازات حضاريّة غاية في الأهمية بدءاً من الزراعة والتدجين والأبجدية الأولى في العالم، وأول نوطة موسيقيّة وأول معاهدة سلام في التاريخ الإنسانيّ.

وسورية الطبيعيّة ليست سورية التي بحدودها السياسية الحالية هي منطقة حضاريّة واسعة تشمل عدة مناطق هي الآن تشكل دولاً وتميّزت بالتنوّع الثقافي القديم والحديث وكذلك بالتراث الثقافيّ الغني حيث قامت على أرضها أقدم الحضارات الإنسانية، لذلك إن تأطير سورية بحدودها الحاليّة هو اجتزاء غير واقعيّ لمنجزات شعبها وتقزيم لمكانتها، وإنّ أي تفكير حزبي أو سياسي ضيق فيما يتعلق بدور سورية القومي هو انتقاص للهوية الثقافيّة لهذا البلد الهام في الشرق الأدنى القديم، كما نطلق عليه من الناحية التاريخية والحضارية.

3-      ما العوائق التي اعترضتكم في مراحل النشأة وما أبرز ما انحفر فيها وجدانكم من عبرها؟ وكيف تمكنتم من بناء هوية عملية وعلمية؟ وبماذا تنصحون طلاب اليوم؟

– كنتُ كما غالبية طلاب سورية في المراحل الجامعيّة الأولى يعترضنا بعض المصاعب من الناحيتين المادية والعلمية لكنها لم تقف عائقاً أمام طموحنا في الوصول إلى الهدف الأكبر ألا وهو التخرّج من قسم الآثار في جامعة دمشق ومتابعة الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه. هذا الهدف الذي سيطر عليّ منذ المراحل الأولى، وكان عملي في مديرية آثار السويداء وفي المتاحف والتنقيب الأثريّ والبحث العلميّ بالإضافة لعملي في التدريس الجامعي والمعاهد السياحيّة الذي كان له عظيم الأثر في صقل تجربتي العلمية والمهنية. لذلك أقول لطلابي الأعزاء لا تجعلوا من عثراتكم وصعوبات الحياة سبباً في تحطيم أحلامكم وأهدافكم بل انسجوا من الألم خيوط النجاح الدائم فالإرادة هي السبيل لتحقيق الأهداف والأحلام.

4-    حبذا تعريف متابعي حرمون بإنتاجكم العلمي والفكري بإيجاز ممكن؟

– قدّمت بحثين للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه في علم الآثار: الأول كان عن المنحوتات في جبل العرب في العصور الكلاسيكيّة، والثاني كان عن اللباس والحلي في حوران في العصر الرومانيّ، إضافةً لنشر مجموعة من المقالات العلميّة في العديد من المجلات العلمية، كذلك قمتُ بنشر عدد من الكتب عن فن النحت واللباس والتراث الثقافيّ، وشاركت في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية الدولية، وحصلتُ على شهادات دولية في حفظ التراث الثقافي وإدارة المواقع التاريخية. والآن أعمل ضمن فريق علميّ متخصّص مع جامعة توبنغن في ألمانيا (مركز دراسة المسكوكات الإسلاميّة) في دراسة المسكوكات الإسلامية.

5- ما دور التقنيات الحديثة في مجال التنقيب؟ وكيف تعزّز دقة الأبحاث التاريخية وتسرّع إنجازها؟ هل يسهم الذكاء الاصطناعي بترجمة بعض النصوص وتحليل اللقى؟

– تساعد التقنيات الحديثة في التنقيبات الأثرية في الكشف عن ماهية الموقع كأنظمة التحديد المكاني والجغرافي وأنظمة الاستشعار عن بُعد والتقنيات الجيوفيزيائية في تحديد مواقع التنقيب ومعرفة الفراغات المعمارية وغيرها مما يُسهم في فهم أكثر للمواقع والذي يقود لأبحاث ومنشورات علمية أثرية أكثر مصداقية.

ويسهم الذكاء الاصطناعي في إعطاء تصوّر أقرب إلى الحقيقة عن طريق المقارنة للنصوص الكتابية واللقى الأثرية التي تنتج عن التنقيبات الأثريّة وأعمال المسح والتوثيق الأثريّ.

6- ما هي أبرز المواقع الأثريّة التي قمتِ بالتنقيب فيها؟ وما هي أبرز الاكتشافات التي ساهمت بها؟

– ترأست العديد من بعثات التنقيب والمسح والتوثيق الأثرية في سورية في مواقع شهبا وقنوات وسيع والسويداء ومجدل الشور تل دبة بريكة وقرى جبل العرب، وشاركت في العديد من البعثات في ريف دمشق واللاذقية.

وكانت أبرز النتائج اكتشاف أوابد معماريّة هامة في مواقع سيع وقنوات وشهبا وتل دبة بريكة بالإضافة لعدد جيّد من اللقى الأثريّة التي ساهمت في إغناء متاحف محافظة السويداء.

‏7- شاركت بكتاب مشترك أصدره مركز سميح للتنمية والثقافة والفنون بعنوان “صفحات من تاريخ جبل حوران”، هل يمكن إيجاز مضمون بحثكم فيه؟ وكيف يتم إثبات أصالة أهلنا في جبل حوران قبل قدوم من قدموا في القرن السابع عشر من لبنان وفلسطين؟

– كان لي الشرف بالمشاركة في كتاب فصول من تاريخ جبل حوران وهو سلسلة من إصدارات مركز سميح للتنمية والثقافة والفنون، وبدعم كامل من المغترب المهندس سميح متعب الجباعي مؤسس المركز، ذلك الإنسان الذي حمل هم وفكر بلده في عقله وقلبه، وقد شاركت في عدة أبحاث تتعلّق بالعمارة السكنية القديمة في جبل العرب أو جبل حوران وكذلك تمثيلات الآلهة في جبل العرب في العصور الكلاسيكية، بالإضافة إلى مقال عن أصحاب المهن في حوران في العصر الروماني. وهذه الأبحاث تساهم في معرفة كيف سكن أجدادنا القدماء في هذه المنطقة وهذا مثبت من خلال عمائرهم وأفكارهم ومعتقداتهم الدينية القديمة وكذلك في حياتهم ومهنهم ونشاطاتهم، وعلم الآثار أثبت أنهم كانوا هنا منذ آلاف السنين وآثارهم تدلّ على ذلك بل وتثبت أننا شعب متجذّر في هذه الأرض.

8- الدعاوى السياسية تتدخّل في تعيين هوية سورية القومية، بين استغراق العروبة كل شخصيتها وبين دعاوى مقابلة بتميّزها عن باقي الدول العربية خارج إطار الهلال الخصيب وتشكيلها ضمن بيئة الهلال هوية تاريخية واجتماعية وقومية واستراتيجية واقتصادية وطبيعية مشتركة تتمايز عن البيئات العربية؟ ماذا يقول علم الآثار في هوية سورية القومية التاريخية؟

– – علم الآثار يعتمد على منهجية علمية بعيدة كل البعد عن الأهواء والتوجّهات السياسية لذلك هو علم مستقل من ناحية الدراسات الأثرية والتاريخية، لذلك إذا تتبعنا نتائج الأبحاث الأثرية في سورية نراها تتجاوز المفهوم السياسيّ منطلقةً لمفهوم التراث الثقافي السوري الذي هو جزء من التراث الثقافي الإنساني، وهنا تكمن أهمية سورية القومية وهذا مثبت علميّاً أن الفكر السوري كان عابراً للحدود لذلك عندما أُطلق مصطلح الهلال الخصيب كان للدلالة على منطقة ذات هويّة تاريخيّة وقوميّة واستراتيجيّة، وهذا الأمر معروف من خلال التسلسل الحضاريّ لسورية منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى وقتنا الحاضر لذلك نحن نعتبر علم الآثار الشاهد الحيّ والحقيقيّ ذا المصداقيّة في إبراز الدور الحضاريّ والقوميّ لسورية بكل أبعادهما.

ويبدو أن سورية بشكل عام تعيش كل يوم صراعات قوى دولية وإقليمية على أرضها وكأنها تجترّ الماضي دائماً فعلى هذه الأرض تسابقت الممالك والإمبراطوريّات القديمة على السيطرة على هذه البقعة الجغرافيّة الهامة من العالم وكأن التاريخ يُعيد نفسه لكن بأدوات وأناس جدد، فعلى الرغم من التراث الحضاري الكبير لسورية والجنوب السوريّ تحديداً لكونه صلة الوصل بين أكثر من حضارة كما هو الآن فقد كان في الوقت نفسه مكاناً للتجاذبات السياسية الدولية، وهذا ما انعكس على الموقف الشعبيّ الذي رأى في أن المجازر والانتهاكات التي حصلت في السويداء كانت إعادة تصوّر لمكوّنات الشعب السوريّ الذي كان نموذجاً جيداً للتعايش، لكن الآن هناك معادلات أخلاقيّة وسياسيّة جديدة، حيث أصبحت “إسرائيل” كما في السابق جزءاً من هذه اللعبة الدوليّة التي تحاول صياغة وضع جديد لدول المنطقة.

9- كان قاسياً انتشار فيديو لموكب سيّار جاب السويداء منذ أيام رافعاً علم كيان الاحتلال وعلم الطائفة الدرزية إلى جانب صورة نتنياهو والشيخ الهجري. ما تعليقكم؟

– لا أعرف كثيراً عن من قام بتنظيم هذه المسيرة أو تفاصيلها.

10- كيف نستعيد روابط الألفة القومية والوطنية والاجتماعية داخل السويداء وبينها وجوارها ضمن النسيج السوري العام؟

– لكي نحقق الألفة القومية والوطنية يجب علينا العودة للموروث الشعبيّ والثقافيّ الأصيل الإيجابيّ لمنطقتنا إن صحّ التعبير، وكيف كان أبناء سورية عموماً والسويداء ومحيطها يتعايشون مع بعضهم البعض بشكل متوائم وسلميّ وإرثهم شاهد على ذلك، فالنسيج السوري الاجتماعي والديموغرافي استطاع عبر آلاف السنين أن يشكّل وحدة حضاريّة تؤسس للتعايش بين الشعوب لذلك ما نراه اليوم هو استثناء لقاعدة المحبة والسلام الذي اعتاد السوريون أن يمارسوها.

11- كيف تقيّمون خلاصة تجربتكم كمدير عام لآثار المحافظة ومدير أكثر من متحف وموقع أثري في محافظة السويداء؟ وكيف تتم رعاية الآثار واللقى وحمايتها بخاصة في حالة الفلتان الراهن وما يتم تسريبه عن عصابات نهب منظم تنشط في هذه الظروف؟

– كانت تجربة هامة جداً في إدارة جانب من جوانب حضارة هذا البلد وتعريف الآخرين بأهمية هذا الإرث الحضاريّ، إضافة لاعتزازي به وقد حاولنا جاهدين حماية آثار هذا البلد وحماية اللقى والقطع الأثرية والتراثية من خلال حماية المواقع الأثرية والمتاحف، لكن واجهتنا الكثير من الصعوبات والعقبات وما زلنا نواجهها حتى الآن.

12- ‏كلمة ٌ أخيرةٌ تحبّ قولها عبر موقع حرمون؟؟

– أخيراً أودّ أن أعبر عن شكري وامتناني لموقع ومنصة حرمون الموقر المتمثل بإدارته وكوادره المتميّزين في إتاحة الفرصة الجميلة لكي أتحدّث قليلاً عن ذاكرة أجيال عاشت على أرض هذه المنطقة والشكر موصول للصحافيّة ميساء أبو عاصي على جهدها المثمر في إنجاز هذه المقابلة. وأقول دائماً احذروا من التاريخ فكما دوّن قصص الأولين سيذكر مَن كان صانعاً لحضارة هذا البلد أو ساعياً لتهديم كل قيم الجمال الإنسانية.