عفاف البعداني
(كاتبة من اليمن)
ويحدث أن تجثو روحك على هيئة جسدك، وهي باكية ودونما أي توقف، يخونك صبرك، وأنت تقرأ رواية أسيف يُساق للموت بكلتا يديه. كم بتُّ أسيفة هذه الليلة ليس لأنك تموت فقط، بل لأنك تحيا بجسد ميت وبذاكرة مليئة بالفراغات اللامتناهية، بالنسيان وعدم الاستئناس بأي أحد. أتعرف مأساة النجوم، وعزوف القمر، وكآبة الليل، ونوبات السحب المرتعدة، إنها ليلة مؤسفة لأمثالي الذين يقرأون بإجادة جنونية في مدفأة الشتاء، يرون باطن العمق، بكلتا أعينهم المظفرة بالبصيرة البعيدة عن السطحيّات، إنني أتخذ من كل صفحة ميعاداً أقابل به زماناً آخر، وشخصاً لم أكن يوماً لأعرفه؛ لكني عرفت عنه الكثير في مكان يعج بالحيوات الأدبية، ومع أشخاص مختلين أقوم برعايتهم حتى نهاية الكتاب، وكأنّ مفهوميّة الأدباء الثاقبة ألقت كاهلها قبل أن تموت على عاتق قارئة بائسة مثلي.
وإنني أيها الأسيف، لم أعد لمناط الحديث عن الذاكرة؛ لأرى ذكرياتي فهي متروكة وليس لي أن أكتبها يؤسفني أن أنال من صمتها ولا يدفعني للحديث عنها سوى أنها عظيمة رغم ضعفها وعز ما قد رأته للحظتها؛ لكني أسوق إداركي؛ لأفهم حياتك الخاصة التي صعدت بها من مكامن القلق والتوتر إلى فسحة من الحياة مع ليلى الفطنة. كنت جاداً في كره كل العالم وأحببته بلحظة واحدة عندما وجدت يداً تلائم تجاويف قلبك المفتوحة، وقلباً يشبه قلبك تماماً، كأنك خلقت لها فقط، من بين كل الذين كانوا يقطنون النفق. مزاجك السحيق أحزنها في كل مرة، وعصبيتك المفرطة، تجاوزتها بفهم عال يخترق الغلاف النفسي، كنت شخصاً ميؤوساً من أن تغيّره الأيام، وتفلح في تأديبه الظروف.
أحالتك الأيام لمكان يضم أفكار المنتحرين فقط ورسوم المرضى، والمسجونين في قارعة الملل والعبث بمشاعر الناس كرهاً، غلبك غياب أمك وتركها إياك في حادثة موت مهولة وأنت طفل لا تفقه أي شيء سوى حاجتك الشديدة لاحتوائها. هزمتك تقاليد والدك الصارمة والجادة في أتفه الأمور، صفعك أنه قرصان محترف، وكان سبباً في تعطيل ذاكرة كل من أحببت، هجرك العالم وأنت في عزّ حاجتك لهم، كل هذا أشبعني إيلاما وطرحني في مكان كنت أسمع فيه صوتي ونحيبي وكأنني أحتسي مراسم مرارتك بكل اقتدار ودونما أي تفريق أنك مجرد رواية لا أكثر. إنها رقتي التي تفوق صلابتي التي أتخذ منها موقفاً لكل الأشياء، إنها خفّة روحي التي تحبّ الأشياء وترحمها بطريقة غادقة، إنها حساسيّتي المفرطة تجاه الذي يشعر بالألم، ثم ماذا… نعم…. لم تكن ليلى امرأة عادية حتى استطاعت أن تخلّصك من كل هذا البؤس والأسف، ليست من النساء العاديات حتى تمنحك تلك الشخصنة الجديدة بأيام قليلة، كيف لها أن تدفعك ليتحوّل فيك الوحش لرجل طيب مستعدّ لأن يغفر للجميع دون أيّ تردّد ويترك ماضيه، ولكن أنّى للحياة أن تتركنا دون أي اختبار!
وإنني أفكر كثيراً بتلك النهاية أكانت منصفة حينما التقيتم عند ابنتكم الوحيدة وكل منكم لا يعرف الآخر، هل عرفتموها وهي تصب قهوة حنانها بكل أسى وتنظر إليكما بكل تحسّر! هل لديكم علم أنها أبطلت مفعول ذلك الاختراع الشرس! لقد حققت كل ما كنتم تحلمون به تحت الأرض وتتحدثون عنه في نور عليل يبرح تجاويف النفق، ألم تدعوكم أرواحكم لتحتضنوها ولو لثانية واحدة، هل أنتم تتحدّثون خلسة عن الجميع وتلتقون بعيداً في السماء وتدركون أنكم أنجبتم روحاً مختلفة تهبّ من روحياتكم الماجدة، التي شكلت بيتا مملؤاً بالمحبة، هل تفعلون كل هذا أم أن العقل إذا فقد حاشيته في التذكر فقد كل شيء، حتى فيما بينكم هل يشعر أحدكم بالآخر، أم أنّ القراصنة قد غرسوا فخاً لكل ذكرياتكم العزيزة وبقيتم أطفالاً كباراً لا شيء يعرفونه ولا يعرفهم أي أحد، أيعقل أنّكما لا تتذكّران أي شيء وبتّم غرباء لهذه الدرجة، أيها الأسيف… ماذا لو تذكّرتما شيئاً ما؟! ما الشيء القويّ، والمكاث فيكما والذي ستتذكرونه في البداية وحتى النهاية؟!
#النهاية……………
لإعلاناتكم في منصة حرمون يرجى الاتصال واتس:
0096176920208
وللانضمام:
مجموعة حرمون للتعليم والإعلام والتدريب:
https://chat.whatsapp.com/HQi7bkJTOGGLYmdqUsKYOB
مجموعة منصة حرمون وندوة حرمون الثقافية:
https://chat.whatsapp.com/HFNrMOLD5TKDxmZTTjYZi3
مجموعة حرمون بالتلغرام:
راديو حرمون:
https://onlineradiobox.com/lb/haramoon/?cs=lb.haramoon&played=1