قُتِل يفغيني بريغوجين – قائد قوات فاغنر العسكرية – في حادث مأساوي وهو يركب طائرة مع مساعده الأول، وثمانية قادة آخرين، وهم في الطريق من موسكو إلى بطرسبورغ، وكانوا عائدين من مهمة في أفريقيا، الأرجح كانت في “النيجر” لترتيب دعم قادة الانقلاب الذين استنجدوا بهم، خشية تهوّر بعض الدول من الاعتداء عليها، لإسقاط الانقلاب.
ومن الوهلة الأولى، فإنّ أصابع الاتهام توجه إلى إدارة بوتين، المسؤولة مباشرة عن تأمين القادة، داخل حدود الإمبراطورية الروسية، على الأقلّ، فكيف يحدث ذلك؟! ولكن هل هذه هي الحقيقة؟!
أرى أنّ هناك سيناريوين، لفهم وتفسير ما حدث، وأيّ السيناريوين هو الأقرب إلى الحقيقة، يتوقف على فهم المصلحة الأكبر للأطراف المفروض أن توجه لهم التهمة في الضلوع مباشرة في اغتيال هذا الرجل الرمز، في إدارة صراع روسيا في أوكرانيا وضدّ الغرب الاستعماري (أميركا وأوروبا).
السيناريو الأول: وهو السيناريو “الأسهل”، الذي يتضمّن أنّ إدارة بوتين، هي المسؤولة عن عملية الاغتيال، لعدة أسباب هي أنّ جريمة الاغتيال تمّت داخل الأراضي الروسية بين موسكو – وبطرسبورغ، وأنه قد سبق إعلان انقلاب هذا الرجل، على بوتين ونظامه، ومن ثم فإنّ هناك خلافاً شديداً، تمّ وأده بسرعة وخلال أيام، والتقى بوتين مع بريغوجين، وانتهى الأمر ظاهرياً، وقد يكون له رواسب في النفس، حيث استهدف قائد فاغنر، إظهار بوتين ضعيفاً في جبهة الداخلية، بالإضافة إلى سبب ثالث وهو أنّ إدارة بوتين في موسكو، قد قرّرت الاستغناء عن شركة فاغنر العسكرية، واستبدالها بمنظومة من الشيشان، أكثر ولاءً، فبدأت إدارة بوتين، بالتخلص من القائد ونائبه، ومعهم ثمانية من قادة فاغنر الكبار.
إلا أنّ هذا السيناريو المحبوك، قد ينتقد، بأنه من الصعوبة التخلص من هذه الشركة، باغتيال قادة الشركة العسكرية الكبار، وصحيح أنّ ذلك سيؤدّي إلى تأثيرات سلبية على الشركة، لكن ذلك ليس وارداً في الإدراك الروسي، لأسباب تتعلق بانتشار أفقي لفاغنر عالمياً، ومن ثم يصعب التخلص من الشركة بسهولة. فضلاً عن أنّ التوتر بين بوتين وزعيم فاغنر، قد كشف النقاب على أنّ الانقلاب كان ظاهرياً وبترتيب مخابراتي بين روسيا وفاغنر، وتمّ توجيه ضربة إلى المخابرات الأميركية، وبموجب ذلك، حصلت روسيا على سيولة وعائد دولاري بلغ 6.2 مليار دولار! ومن ثم لم يكن حراك فاغنر ضدّ بوتين، ولا كان انقلاباً عسكرياً حقيقياً.
أما أنّ الجريمة وقعت داخل الأراضي الروسية، وليست خارجها، فإنّ ذلك يُعتبر نقطة ضعف لإدارة بوتين والمنظومة العسكرية، ومن فعل ذلك، كشف هذا الضعف بلا شك، حيث لم تستطع إدارة بوتين حماية رجالها. إلا أنّ الطرف الخارجي المسؤول عن هذه الجريمة، استطاع كشف نقاط الضعف، وارتكب الجريمة بأريحيّة شديدة وبسرعة خياليّة!!
السيناريو الثاني: هو أنّ طرفاً خارجياً يتمثل في المخابرات الأميركية سواء بشكل مباشر، أو عبر وكلاء، أهمّهم مخابرات وقوات أوكرانيا، رغم تهالكها وضعفها، إلا أنه من الممكن القيام بهذه المهمة “القذرة”. وأتصوّر أن يكون ضرب الطائرة واغتيال بريغوجين، قد تمّ عن طريقين هما: وضع متفجرات بالطائرة، عبر تجنيد من قاموا بوضعها، أو عبر استخدام مجموعة طائرات مُسيّرة، تتبّعت الطائرة وقامت بضربها. أما المصلحة من وراء ذلك، فتتمثل في ردّ الصاع صاعين، حيث أنّ قائد فاغنر، قد تلاعب مع المخابرات الأميركية وخدعها، وتظاهر أنه يقوم بانقلاب ضدّ بوتين، وكان خداعاً ووهماً وسراباً، دفعت أميركا مقابل ذلك 6.2 مليار دولار، فأرادت الانتقام من هذا الرجل، وهي رسالة لكلّ المتعاونين العملاء مع المخابرات الأميركية. وقد أكدت تغريدة للرئيس الأميركي بايدن، ذلك، قبل إتمام العملية.
كما أنّ أميركا نفذت جريمة الاغتيال داخل الأراضي الروسية، لإلصاق التهمة بإدارة بوتين مدى الحياة، وإظهار ضعفها أمام العالم، باعتبار أنّ ذلك فضيحة كبرى! ومن ثم يتضح أنّ مصلحة الأميركيين أكبر بكثير من روسيا، في ارتكاب الجريمة. حيث إنّ هناك قاعدة قانونية تشير إلى أنّ مرتكب الجريمة، هو الأكثر مصلحة في ارتكابها. وليس من الغباء أن تقوم إدارة بوتين بارتكاب مثل هذه الجريمة، وداخل أراضيها، كما أنه من الغباء على صاحب المصلحة الأكبر (أميركا وأوروبا)، أن يرتكبوا هذه الجريمة على الأراضي خارج روسيا، لأنها ستوجه أصابع الاتهام لهم بسهولة! ولذلك فصبراً، إزاء هذه الجريمة لكشف كلّ الملابسات. ولكن ذلك هو محاولة للتحليل والتفسير، مثلما حدث في جريمة اغتيال الرئيس/ رفيق الحريري (رئيس وزراء لبنان) في عام (2005)، حيث رجّحت من أنّ الفاعل هو المخابرات الأميركية الصهيونية، رغم أنّ الجريمة ارتكبت على الأراضي اللبنانية، ونفذت بإحكام كبير، كان من نتاجه، كما هو مستهدف، إخراج القوات السورية من لبنان، وإدخال سورية في المعادلة، باعتبارها طرفاً أصيلاً في عملية الاغتيال، وثبت عدم صدق ذلك، بعد أكثر من (15) عاماً من التحقيقات الدولية، ليثبت سلامة ما قلناه وحللناه في يوم ارتكاب الجريمة، وذلك على قاعدة الطرف الأكثر مصلحة، هو الأقرب لارتكاب الجريمة.
* * *
أما عن المؤتمر الـ (15) لمنظمة بريكس، الذي عقد خلال الفترة من (22 – 24 آب/ أغسطس) الحالي، فقد تمخض عنه خطاب جديد، وأعضاء جدد، تمّ ضمّهم إلى عضوية المنظمة، من بين 27 دولة طلبت العضوية، إلا أنّ الأعضاء الأصليين، وافقوا فقط على ضمّ 6 أعضاء جدد، وهم: (إيران، الإمارات، السعودية، الأرجنتين، إثيوبيا ومصر). ولم تحدّد معايير الاختيار، باستثناء إيران التي تمّ قبولها في اجتماع المنظمة في العام السابق، وحضرت وشاركت، إلا أنّ ضمّها رسمياً كان في هذا الاجتماع كأول دولة.
ويشير اسم بريكس – (B.R.I.C.S) إلى الحروف الأولى لكلّ دولة عضو، وهي البرازيل B، روسيا R، الهند I، الصين C، ثم جنوب أفريقيا S، وقد تقرّر في الاجتماع عدم تغيير الاسم الآن.
وفي ظني أنّ الدول الجدد، قد تمّ اختيارها لاعتبارات سياسيّة، أكثر منها اعتبارات اقتصادية، يتأكد من خلال ذلك وجود المنظمة داخل المنطقة العربية والشرق الأوسط، على اعتبارها أنها منطقة نفوذ للاستعمار الأميركي الأوروبي!
لذلك ستواجه الدول الجديدة تحديات كبرى، في مقدمتها، تقوية وزيادة وتنوّع القدرات الإنتاجية، حتى تتمكن من التبادل التجاري الحقيقي بالعملات المحليّة بالمقايضة، وإلا ستكون مستوردة أكثر، وهي علاقات التبعية نفسها مع النظام الرأسمالي المتوحش، وللحديث بقية وتفاصيل…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس – مصر.