للعيد معنى آخر، عندما يتكثّف معناه ويتعدّد. فيضاف إلى معناه الأصليّ معنًى خاص ومميّز او تضاف معانٍ خاصة ومميزة.
وإذا كان عيد التضحية، بالمعنى الحقيقي، وليس كما يتداوله الناس، بذبح الخرفان والكباش، وتوزيع لحومها على الفقراء، طلباً للدعاء وربما الجاه، بينما يحجمون عن البذل بالخفاء، حيث لا صورة تؤخذ ولا فيديو يُسجَّل.
حبذا لو كانت أعيادنا كلها منذورة للتضحية والبذل خفية، وإذا كان لا بد منهما فلتكن جهاراً أيضاً، لمن يهوى التسويق لنفسه.
***
ويرغب الزمان أن يحبك خيوط الدهشة باحتراف، كعادته أحياناً، وأحياناً يشبكها شركاً لا فكاك منه.
لتكون المناسبة مثلثة المعنى: الأول عيد أضحى مبارك للجميع، الثاني موسم حصاد الغلال التي لوّنها ذهبُ النضج، فثقلت وانحنت تنتظر يد حصّاد قوية، أو منجلاً مرهف الحد يشفق عليها فيرحمها من الثقل لترتاح في كوائر المنتجين، والثالث احتفال الحبيب أسعد مع المؤسسة الأميركية للتنمية بإنجاز المنحة المقدمة منها، في مرحلة الماجستير في هندسة الكومبيوتر، قسم الذكاء الاصطناعي، في الجامعة الأميركيّة، مساء أمس الأربعاء 27 حزيران الحالي.
***
وإذ أرفع القبعة لهذا الشاب النجيب، الباسم على وجع، الضاحك على حزن خفيّ، الصابر على مضض، الواعد على عزم.. الذي لم توقفه التجارب، من تفكّك الأسرة، إلى الفقر، إلى التنازع، إلى الغربة، إلى الطائفيّة العفنة، إلى المواطنية الوهم، إلى الحزبية الرعناء، إلى الحرب على الحياة والشباب الذي يعبر عنها، في ما يسمّى دولة ووطناً، أقصد العقار 10452 كلم مربعاً، ليبقى قفراً من أي أمل، خالياً من أي شعب جدير بالحياة، ليسهل تحاصصه وبيعه للمافيات والشركات العملاقة، بل يبقى مرعًى لقطعان الخانعين الخاضعين، المسبّحين لأسياد نعمتهم من فتات الوظائف الطائفية والحزبية، سماسرة الأجنبي، من الشرق والغرب والجنوب والشمال، لتسهيل مطامعه بأبخس الأثمان، وهو الرضا والاعتماد.
***
نحن الضحايا والأضاحي، ولا مسؤول عن الجريمة. حتى راجح مسرحيات فيروز اختفى، ولا يدّعي مسؤولية عما أصابنا من هول وانهيار، لأن من يدّعي المسؤولية فرعون لا يردّه شعب ولا يسائله برلمان، ولا يراقبه مواطن انقرض منذ زمن بعيد.
عندما تقدّمت قريبتي لتخصص الطب في الجامعة منذ نحو عشرين عاماً، تمّ ترسيبها بالرياضيات التي تبرع به، وكان السبب واضحاً، أن بعض الناجحين نجحوا دون امتحان. فالامتحان حضوريّ وبعض الناجحين كانوا في قبرص خلال حصوله. لأنها لم تنحن، ولم تقرع باب واسطة. فالطالب الذي يقرع الأبواب لن يكون طبيباً ولا ضابطاً ولا مهندساً حقيقياً كفوءاً، بل سيعتمد على كونه الخط الأحمر لوصيّه الفاسد المقاول عليه. هكذا تنهار الدول وتفسد الشعوب عندما تفرّط في معيار الكفاءة. فتضع غير الجديرين مَن تحميهم الواسطات في مواقع القرارات والنفوذ الفاصلة.
***
تم إفقارنا لنستسلم. تم استهدافنا لننهار. مارسنا فضيلة العناد. وهي سلاحنا الوحيد، والثبات أن الحق لا بد أن يتحقق.
لكننا فقدنا القدرة على الإنجاز لولا نافذة الضوء التي تمثلها مؤسسات تنمية دولية، تشكل حلاً مؤقتاً في الظروف العصيبة.
***
استحق الحبيب أسعد منحة من المؤسسة الأميركيّة للتنمية (USAID) في تموز العام 2017، للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت. اختار هندسة الكومبيوتر، أحد التخصّصات التي تعطي فيها منحاً، وتمكّن من التفوّق في المراحل كافة، خلال البكالوريوس، وخلال مرحلة الماجستير، ورسالته قيد المناقشة، في الفترة المقبلة.
قدّمت المؤسسة الأميركية للتنمية حلاً عادلاً. ولم تقم بفحص دمه، لتعرف طائفته، ولا إن كان له ميل سياسي أو حزبي، أو يحب أميركا أو يعاديها. بل عندما كنتُ أشترك معه في كتابة الإجابات على أسئلة الاستمارة، في آذار 2017، لفتني التحذير البارز على الغلاف الأول أن “أي اتصال يصل الإدارة بخصوص هذا الملف يتم إلغاؤه”. فاستبشرت خيراً. لم يتم إعلان الموافقة على المنحة أو رفضها، قبل امتحان الطالب ومقابلة الأهل، للتحقق من التفاصيل المطلوبة كافة، واستعداد الطالب وتوفر الحد الدراسي والعلمي المقبول واستعداده الجدي للعمل، والتأكد من سوء الوضع الإنتاجي والمالي للأسرة. علّ هذه التجربة تشكل قدوة لمن يبتزهم محازبوهم بالاتصال لتوظيفهم، فيشدّدون معهم على تطوير ذواتهم ومهاراتهم ومعارفهم ليستحقوا المنافسة والنجاح، أو ليفسحوا المجال للكفوئين الذين ليس لهم في عالم الفساد نصير.
***
شكراً للمؤسسة الأميركية للتنمية، ففي زمن الحيتان، طوائف وأحزاباً، تبقى ومثيلاتها الحل والسند بلا مقابل، مالي أو سياسي.
حبيبي أسعد شكراً لعينيك ولقلبك ولأعصابك ودماغك، لما بذلت طيلة ست سنوات من السهر والكدّ المضني.
لكن ما حققته ليس القمة الأعلى، هو قمّة في سياق القمم التي تستطيع بلوغَها.
دمت نوراً يكشح ظلام الحياة.
*الخميس 28 حزيران 2023.