رغم الانسداد السياسي المتفاقم في لبنان، جرّب أعضاء مجلس النواب جميعاً منتصفَ الأسبوع الماضي في جلسةٍ هي الثانية عشرة منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 2022/10/31، انتخاب رئيس جديد للجمهورية. النتيجة كانت معروفة سلفاً: لم يفُزْ أحد بسبب تشرذم النواب بين التكتلات السياسية المتصارعة.
قياديو كلٍّ من فريقيْ المعارضة والممانعة ادّعى الانتصار، بمعنى الحؤول دون تمكين مرشح الفريق المنافس من الفوز. هذه النتيجة السلبية ستتكرّر، بشكل أو بآخر، إذا ما عُقدت جلسات أخرى للانتخاب في برلمانٍ تنتهي ولايته ربيعَ سنة 2026.
ثمّة سببٌ آخر لهذا الانسداد السياسي المتفاقم هو أنّ كِلا الفريقين المتصارعين يتهم الآخر بأنّ قوى خارجية تدعمه. فريق المعارضة يدّعي أنّ إيران تدعم حزب الله الذي هو قائد فريق الممانعة، وانّ ما تبتغيه المعارضة هو إسقاط مرشح الممانعة للرئاسة للحؤول دون سيطرة حزب الله على السلطة التنفيذية. فريق الممانعة يؤكد دعم الولايات المتحدة، ومن ورائها “إسرائيل”، لفريق المعارضة بغية إبعاد حزب الله عن السلطة، وإضعاف المقاومة، ووقف مواجهتها للكيان الصهيوني.
بصرف النظر عن دور القوى الخارجية وتأثيرها في دعم هذا الفريق او ذاك، فإنّ ثمة حقيقة ساطعة لا سبيل الى نكرانها هي عجز فريقيْ المعارضة والممانعة منفردَين في تأمين فوز أيٍّ من مرشحيهما للرئاسة. ذلك حمل قادة الفريقين، كما سائر التكتلات النيابية، على التسليم بالحاجة الى الحوار بغية التوافق على مرشح قادر على الفوز.
الحوار بين القوى السياسية الممثلة في البرلمان، وهي في معظمها من أهل نظام المحاصصة الطوائفي، يعني انّ المسؤولين عن الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تعانيه البلاد والعباد حاليّاً يطالبون أنفسهم بالحوار للتوافق على صيغة للخروج من الأزمة المزمنة والمستفحلة بتسوية كسائر التسويات الظرفية التقليدية التي حفل بها تاريخ لبنان المعاصر، وكانت تعيش بضع سنوات لتتفجّر بفعل قوى خارجيّة أسهمت في إنتاجها، ولتعاود بعد ذلك المنظومة الحاكمة ذاتها، معدّلةً ومنقحةً، الحكم والتحكّم وإنتاج الفساد والمفسدين.
ما كان لبنان ليعيش هذا المسلسل المتطاول من الأزمات والكوارث والحروب والانهيارات لو تمكّن اللبنانيون، لا سيما القوى الوطنية الحيّة في صفوفهم، من إنتاج معارضةٍ نهضوية عابرة للطوائف والمناطق وقادرة على تجاوز نظام المحاصصة الطوائفي سلماً وتدريجاً ووضع البلاد تالياً على مسار الوصول، عاجلاً أو آجلاً، الى دولة المواطنة المدنية.
المعارضة النهضوية المنشودة غير موجودة حاليّاً. ما العمل؟
من المنتظر، والحالة هذه، أن يعاود أهل النظام الطوائفي، بتدخلاتٍ إقليمية وخارجية أو من دونها، حواراتهم وتجاذباتهم وصراعاتهم قبل التوصل الى تسوية تقليدية تسهّل عليهم الخروج، مؤقتاً، من حال الانسداد السياسي الراهن. لكن، ماذا عن القوى الوطنية النهضوية؟ هل تبقى متفرّجة وغير قادرة على اجتراح صيغة للتفاهم والتنسيق وتفعيل العمل المشترك؟
المقصود بالقوى الوطنية النهضوية القياديّون الأفراد والجماعات المناهضة لنظام المحاصصة الطوائفي ومنظومته الحاكمة، والعاملون من أجل تجاوزه لبناء دولة المواطنة المدنية. هؤلاء جميعاً مطالَبون بتكثيف جهودٍ جادة للتوافق على إقامة تحالفٍ للعمل الشعبي والسياسي ببرنامج إصلاحي مرحلي متطور يتضمّن الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوب تحقيقها بنضالٍ طويل النَفَس.
لعلّ تحديات ثلاثة رئيسة تواجه القوى الوطنية النهضوية في المرحلة الراهنة: الضائقة المعيشية المستفحلة، الاحتدام الطائفي، ومقاومة الكيان الصهيوني.
لا أرى صعوبةً في التفاهم على أولوية الضائقة المعيشية وطرائق معالجتها، حتى مع الحكومة القائمة، من أجل تأمين متطلباتها الجوهرية الستة: الغذاء، الدواء، الماء، الكهرباء، النقل (الوقود والمحروقات) والأمن. ومن الممكن العمل لتحقيق متطلبات أخرى ضرورية كمناهضة الفساد والفاسدين وملاحقة ناهبي المال العام والمتاجرين بالعملات الصعبة وصولاً الى توحيد سعر صرف الدولار الأميركي.
اما الاحتدام الطائفي المتفاقم فأرى وجوب معالجته ومواجهته بالتزامن والترابط مع التحدي الآخر وهو مواجهة الكيان الصهيوني العدواني.
من المؤسف والمقلق في آن أنّ فائض قوة حزب الله، محلياً وإقليمياً، أدّى الى تنامي خوف سياسي لدى شرائح واسعة من المسيحيّين في شتى المناطق، لم تتأخر قوى خارجية عن تسعيره بغية تكوين ظاهرة رفض عامة لحزب الله لكونه المستفيد الأول من انعكاس إنجازات المقاومة إيجابياً على الوطنيين اللبنانيين عموماً والجنوبيين خصوصاً الذين عانوا الأمرّين من الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته المتواصلة قبل أن تتمكن المقاومة من دحره وإجلائه بالقوة.
غير أنّ حزب الله الذي أقلق بعض الشرائح المسيحية والسياسيين المسيحيين المحترفين، شكّل ظاهرة نادرة في المجتمع السياسي اللبناني ذي التعدّدية المتجذرة والمرهقة. ذلك انه، ولأول مرة في تاريخ لبنان السياسي المعاصر، قام حزب مقاوم وشكّل منفرداً أوسع وأفعل قوة شعبية بالمقارنة مع سائر الأحزاب والتجمعات التي تتشكّل منها حاليّاً فسيفساء التنظيمات السياسية المتنافسة في ميادين الحياة العامة. ذلك استولد ظاهرةً أخرى بالغة الدلالة: قدرة هذا الحزب الأقوى شعبياً والأفعل سياسياً على نسج تحالفٍ بين الأحزاب والقوى القريبة منه سياسياً ما يتيح له أن يشكل تكتلاً وازناً في البرلمان، وبالتالي القدرة على تأليف حكومة ائتلافية تراعي توجهاته.
غير أنّ حزب الله في وضعه السياسي الراهن عاجز عن الاضطلاع بدورٍ إصلاحي جدّي لسببين: الأول، لكون قاعدته الشعبية مؤلفة بأكثريتها الساحقة من الشيعة الأمر الذي يزعج وربما ينفّر بعض الطوائف. الثاني، انهماكه بإعطاء الأولوية في نشاطه لمواجهة “إسرائيل” ما أدّى الى إيلائه سائر القضايا الاقتصادية والاجتماعية اهتماماً أدنى مردوداً وفعالية. ذلك أزعج شرائح واسعة من المواطنين الذين يعانون حاليّاً تداعيات الفقر والبطالة وتناقص قيمة الرواتب والتعويضات وإعانات الضمان الاجتماعي.
من أجل استكمال فعاليته السياسية والاجتماعية، ينبغي أن يولي حزب الله بلا إبطاء اهتماماً يرتقي الى مستوى الأولوية لقضايا الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في هذه الظروف البائسة، خصوصاً بعدما تمكّن من دحر “إسرائيل” في حرب 2006، وامتلاكه لاحقاً عشرات آلاف الصواريخ الدقيقة، وإرسائه توازناً ردعياً فاعلاً معها أدّى الى لجمها ووقف اعتداءاتها على البلاد.
الى ذلك، يقتضي ان يولي حزب الله أيضاً اهتماماً جدّياً بالتحاور والتعاون مع كلّ القوى السياسية العابرة للطوائف والمناطق والناشطة لإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية مستحقة وواجبة التنفيذ.
في موازاة هذا كله، يتوجّب على القوى الوطنية النهضوية المسارعة الى بناء تحالف عريض ببرنامج متكامل يتضمّن الأولويات الإصلاحية الواجبة التحقيق في المدى القصير والأولويات الأخرى المطلوبة للمدى البعيد، وذلك انطلاقاً من تنفيذ أحكام الدستور المعدّل سنة 1990 لاستيعاب إصلاحات اتفاق الطائف. كلّ ذلك مطلوب كي تصبح القوى الوطنية النهضوية في وضعٍ يمكّنها من التعامل الندّي والتعاون المثمر مع حزب الله وحلفائه في سياق سياسةٍ جديدةٍ مطلوب تركيزها على قضايا الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ألا تستحقّ هذه المقاربة تفكيراً وتدبيراً؟
issam.naaman@hotmail.com
(البناء)