عبثاً يحاول جيش العدو الإسرائيلي وقادة أركانه ووزير حربه وكبار موظفي الكرياه في تل أبيب، التخفيف من نتائج “الحرب الكبرى” التي يتوقعون حدوثها ويترقبون اندلاعها، ويجرون المناورات لتجنب كوارثها والتقليل من آثارها، وهي الحرب التي يصفونها بمتعددة الجبهات ومتحدة الساحات، التي قد تشارك فيها إيران والعراق واليمن وسوريا ولبنان وقطاع غزة، إلى جانب الضفة الغربية وفلسطينيي العام 1948، والتي ستدور بعض معاركها داخل المستوطنات والبلدات الإسرائيلية، وسيتأثر بها أكثر من سبعة ملايين إسرائيلي على مدى أرض فلسطين التاريخية، وذلك لأول مرةٍ منذ تأسيس كيانهم.
إنها سيناريوهات مناورة “اللكمة القاضية” التي يحاول منظموها إقناع أنفسهم بأنها فعلاً لكمةٌ لأعدائهم، وضربةٌ صاعقةٌ لهم، وأنها ستقضي عليهم وستنهي خطرهم، وأنهم سيهزمون وسيسقطون صرعى بسببها، وأنها ستنهى الكابوس المرعب الذي يسيطر عليهم ويبدد أمنهم ويهدد مستقبلهم.
فقد حاول قادة أركان جيش العدو أن يظهروا هذا المناورة بشكلٍ آخر، على غير ما اعتادوا على إظهاره في مناوراتهم السابقة، التي كانت تحاكي حروباً محدودةً، وجبهةً واحدةً، وتركز على الجبهة الداخلية وتأمين الاحتياجات اليومية، وحماية المنشئات والمؤسسات الحيوية، كمحطات توليد الكهرباء وضخ وتوزيع المياه، وتأمين الملاجئ وتوفير الأغذية والأدوية وكل ما يلزم لضمان أمن وسلامة المستوطنين.
لكن مناورة “اللكمة القاضية” وفق مختلف السيناريوهات المتوقعة، وبالاستناد إلى تقارير الخبراء والمختصين، وتصريحات كبار الضباط المتقاعدين والمراقبين، فإنها لن تكون قادرة على تأمين ما كانت تعد به المناورات السابقة، وستكون الجبهة الداخلية عبئاً ثقيلاً لا يقوى الجيش على حمايتها ومنع تصدعها وانهيار دعائمها، فقد ذكر متابعون إسرائيليون أن الحرب القادمة ستكون موجعة ومؤلمة، وقاسية وعنيفة، وستشترك بها جهاتٌ عدةٌ، وستفتح على عدة ساحات، وستتأثر بها الجبهة الداخلية تأثراً شديداً، وقد تتفاقم الأوضاع فيها إلى نزاعاتٍ داخلية وصداماتٍ عرقيةٍ وأخرى على خلفيةٍ دينيةٍ، وسينشغل السكان بحماية أنفسهم عن الدفاع عن وحدة كيانهم وسلامة مجتمعهم، وستتخللها حركة نزوح وسفر خارج البلاد واسعة.
إلا أن منظمي المناورة يكذبون على “شعبهم” ويخدعون أنفسهم، إذ يؤكدون أنها تحاكي “الحرب الكبرى”، وتضع تصوراتٍ عمليةً ناجحة لكل الاحتمالات، وتستطيع العمل على كل الجبهات، ومهاجمة جميع الأعداء، واستخدام أقصى القوة ضدهم، بما يحقق تدمير قوتهم وشل حركتهم، والسيطرة الكاملة على مراكز قيادتهم، ومنعهم من السيطرة والتحكم على مسار المعارك، وأن جيشهم سيكون قادراً على إدارة حرباً تكنولوجية أمنية واسعة، تعزز عمليات الجيش وتركزها، وتمكنه من توجيه ضرباتٍ صاعقةٍ ومفاجئةٍ، تربك “العدو” وتفقده القدرة على توجيه ضرباتٍ مضادة.
يتحدث العدو كاذباً أن خسائره البشرية في “الحرب الكبرى” التي لن تستمر لأكثر من أيامٍ معدودةٍ، لن تتجاوز أكثر من مائة مستوطن، وسيصاب فيها قرابة ألفٍ بصورةٍ مباشرةٍ، إضافة إلى إصابة آخرين بأزماتٍ نفسية واضطراباتٍ داخلية، وأن هجمات الأعداء، التي ستكون بالصواريخ والطائرات المسيرة، لن تتمكن من إلحاق خسائر بشرية كبيرة في صفوفهم، حيث سينجح الجيش في توجيه ضرباتٍ استباقية صاعقة لهم، علماً أن تقارير عسكرية سابقة لضباطٍ سابقين تحدثت عن عشرات آلاف القتلى والجرحى، وعن أمطارٍ صاروخية متعددة المصادر، وعن أسرابٍ كثيرةٍ من الطائرات المسيرة الحديثة، وعن تعطيلٍ شبه كامل أو تشويهٍ مخل واضطرابٍ كبير في عمل القبة الحديدية، وعجز مختلف المنظومات المضادة عن التصدي للهجمات المعادية.
أما عن الجبهة الداخلية فيقول منظرو مناورة “اللكمة القاضية”، أنها لن تتشتت ولن تصاب مؤسساتها بالشلل، ولن تتعطل خدماتها أو تتوقف عن العمل، وستبقى قادرة على تقديم الخدمات للمواطنين، إذ لن تتمكن الهجمات المعادية من تدمير أكثر من 500 مبنى، تدميراً كاملاً أو جزئياً، وقد تصيب قرابة ألف منشأة مدنية، من بينها محطات توليد الكهرباء وتوزيع المياه، ومراكز الخدمة الصحية والاجتماعية، إلا أن وجود بدائل استراتيجية وإمدادات متوقعة من أمريكا ودول أخرى، في ظل جاهزية شبكة ملاجئ حصينة مخدمة جيداً، ومستودعات طبية ومخازن غذائية كافية، سيقلل إلى درجة كبيرة من حجم الخسائر المادية، لجهة القتل أو الإصابة المباشرة، أو التعرض لأزماتٍ نفسية واضطراباتٍ عصبيةٍ.
يعرف المسؤولون الإسرائيليون أنهم يكذبون على أنفسهم ويخدعون شعبهم، ويحاولون كي وعي أعدائهم، وإحباطهم والتأثير على معنوياتهم المرتفعة، فهم يعلمون يقيناً أن الحرب القادمة لن تكون نزهةً أبداً، ولن تكون سهلةً عليهم وعلى حلفائهم معهم، وأن نتائجها ستكون مدمرة، وأن كل السيناريوهات التي يضعونها ستسقط على الأرض، وكل الأرقام والاحصائيات التي يتصورونها ستتضاعف، وستخرج ضوابطهم عن السيطرة وكوابحهم عن التحكم، وسيجدون أنفسهم في مواجهة حقائق جديدة وقدراتٍ للمقاومة مختلفة، في حين أن الأخيرة قد أعدت لهذا اليوم واستعدت له، وما سيصيبها قد أصابها مثله من قبل ولم يقعدها، ولكن ما سيصيب عدوها سيكون أكبر بكثيرٍ مما توقعه وأخطر مما تهيأوا له واستعدوا.
بيروت في 13/6/2023
moustafa.leddawi@gmail.com