السويداء – معين حمد العماطوري
يشكل الاغتراب للعديد من أبناء جبل العرب عاملاً هاماً في رفد الحياة الاقتصادية والعلمية، إذ كثر ممن اغتربوا حملوا معهم أما رغبة تحسين الواقع الاقتصادي أو التحصيل العلمي، وحين يُجمَع الإثنان معاً ويعكس الإنجاز المالي والعلمي على تنمية الواقع المعيش الاجتماعي والثقافي في مجتمعه، فهذا شكل عند افراد المجتمع رؤية مختلفة في ماهية العلاقة بدوافعها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، إذ هناك من هاجر وكانت يده وافرة في حب مساعدة الأهل وتقديم منح دراسية وسدّ احتياجات الأسر الفقيرة والجمعيات الأهلية ومنهم الراحل المرحوم “أنور الجرمقاني”، رحمه الله، ومنهم من ساهم في تنمية الجمعيات الأهلية وحمل مشروعاً موسوعياً مثل المغترب “زياد صيموعة” حينما رفد الحركة الثقافية بموسوعة الجبل نافت عن عشرين كتاباً، ومنهم من اغترب بقصد التحصيل العلمي وحين نال ما أراد من هدفه العلمي وضع لنفسه هدفاً وبدأ ببناء مشروعاً موسوعياً توثيقياً حول الثورة السورية الكبرى واستطاع جمع أكثر من خمسمئة وثيقة تاريخية واتخذ نهجاً علمياً في المقاربة والمقارنة للوصول الى الحقائق التاريخية ونموذج ذلك هو المهندس سميح متعب الجباعي.
فقد استطاع المهندس “سميح متعب الجباعي” أن يحمل ما نهله من معين عاداته وتقاليده، وما اكتسبه من علوم معرفية، وصوتاً فنياً اسمهانياً خالداً في لبه وعقله يشدوه بشدوه نحو العالمية حاملاً معه ذاكرة مميزة من الإرث الوطني والاجتماعي، ويكوّن منهجاً منفرداً في بلاد الاغتراب، مستكيناً فوق أعشاب حدائق “فيينا النمساوية” مساهماً في تنمية وتطوير المهارات الإدارية والميكانيكية وخط سير الإنتاج ليرسي مركبه الفكري والثقافي على شاطئ البحث التاريخي بالتدوين والتوثيق ويغني المحتوى الثقافي بمنجز ناف عن ألف صفحة وبأكثر من خمسمئة وثيقة، أوسمه بالموسومة التاريخية /ذاكرة الثورة 1920-1939 المجاهد متعب الجباعي/.
لم تكن رحلة الباحث المهندس “سميح متعب الجباعي” المولود في قرية “الشبكي” الواقعة في الجهة الشرقية من محافظة “السويداء” في السابع عشر من أيلول عام 1953، رحلة سياحية أو استجمامية، بل قاصدٌ مدينة الجمال الخضراء والغناء في “فيينا النمساوية” لدراسة العلوم الهندسية باختصاص الميكانيك، وهو يحمل تحت إبطه حقيبة تحوي رغيفاً من العيش وزاداً معرفياً من الكتب اللغة الأجنبية، وليتذكّر أنه أمام واقع أراد لنفسه أن يكون ذا شأن ثقافي وفكري ويجمع ما لم يستطع أحد غيره من جمعه بين أروقة الماضي التليد بأسلوب المقاربة والمقارنة والتحليل والتفكيك البنيوي للحدث، وحتى رأى بنظره ورؤيته الإبداعية ليشكل من الحركة الميكانيكية أسلوباً تقنياً فيه من صوت الآلات ما يجعله يحرّك في ذهنيته صوت الرياح وهبوب العواصف وأزيز الرصاص الذي كان والده يحدثه عنه حينما خاض معارك الثورة السورية الكبرى إلى جانب سلطان باشا الأطرش ورفاقه الثوار، وتغذّى على عشق الانتماء والتعبير في الاندماج بين حركات الآلات الميكانيكية ووقائع التاريخ المستمرة المتحركة.
إذ يذكر “الباحث المهندس “سميح متعب الجباعي” بالقول: إنه في قرية “الشبكي” الحاضنة الشرقية لمدينة “السويداء” ومنذ عام الف وتسعمئة وثلاثة وخمسين، تفتحت عيناي لأرى سقف منزلنا فيه من الحجارة البازلتية الحاملة لأحداث تاريخية، خاصة أن والدي هو أحد المجاهدين “متعب الجباعي” الذي كان ملازماً لقائد الثورة السورية الكبرى “سلطان باشا الأطرش”، فما أن تجاوزت من العمر ما سمح لي التعلم حتى دخلت المدرسة الابتدائية عام ألف وتسعمئة وستين في قريتي التي أحببت “الشبكي” لأنتقل في منتصف الستينيات لدراسة الإعدادية والثانوية الصناعية في “السويداء”، وقررت السفر لأدخل أراضي “النمسا” في نيسان عام ألف وتسعمئة وأربعة وسبعين بقصد دراسة اللغة والتحضير للدراسة الجامعية في جامعة “فيينا” فرع الهندسة الميكانيكية وتخرّجت من كلية الهندسة الميكانيكية بعد إنجاز العديد من الدورات والاختصاصات المتعددة. دخلت سوق العمل متحصناً بالعلم والخبرة وبدأت بتأسيس شركات إنتاجية تساهم في رفد الاقتصاد المحلي مع القيام بتدريب عناصر وعمال وإداريين في التنمية والإدارة. ولعل الصدفة التي نقلت بي من علم الحركة والصوت الصاخب بين آلات المحركات والمعامل إلى عالم الهدوء والبحث والمقاربة العلمية، بصدفة زمنية نقلت بي من الحركة إلى الفعل ومن عالم التجريب إلى التوثيق.
الصدفة والحافز:
تابع المهندس “سميح متعب الجباعي” بالقول: في منتصف السبعينيات كنت استمع إلى ألحان الموسيقار “فريد الأطرش” الذي جعلني أربط بين البيئة الثورية الوطنية الجبلية وبين ما أرنو إليه من العلم والتجريب والهندسة، وبينما كنتُ أتجوّل في إحدى حدائق “النّمسا” الجميلة متأبّطًا حقيبتي السّوداء، التي تحتوي على الرّسائل الأخيرة من الأصدقاء والأهل، وكتاب تعلّم اللغة الألمانيّة، وقطعتين من الخبز، بحثتُ عن مقعدٍ في الحديقة، فوجدْتُ مكاناً مناسباً أتنعّم بدفء الشّمس، وأستمتع ببحيرة الماء وبعد دقائق، جلس بجانبي رجلٌ سبعينيٌّ، وراح يراقبني فشاهدني وأنا أتصفّحُ بصعوبةٍ كتاب تعلّم اللغة “الألمانيّة”، نظرت إليه راجياً التحدث معيَ، لأختبر مقدرتي في اللغة، بادرني الحديث إن كنتُ أعرف اسم هذه الحديقة، فقلت له: لا أعرف. فقال: “هذه الحديقة سُمّيتْ باسم مَن كان اغتياله سبباً مباشراً لنشوب الحرب العالميّة الأولى، وأنا أحد أفراد هذه الأسرة التي نفتها الحكومة النّمساوية عام ألف وتسعمئة وثمانية عشر إلى “سويسرا”، واسمي هو “فرنس من هابس بورك”، عرف الرّجل أنّني سوري من بني معروف، وبدأ يحدّثني عن الثّورة السّورية الكبرى وعن قائدها “سلطان الأطرش”، ورجالها بأسمائهم فسألته: “ومن أين لك بهذه المعلومات؟” قال: “كانت لي جلسات أدبيّة وتاريخيّة مع الأمير “شكيب أرسلان” في “سويسرا”؛ فأثار في مشاعري مرارة الفراق والهجرة وولد لديّ نور الارتباط الوجداني والتاريخي بتوثيق ما حمله الأجداد والوطن، بطريقة بحثية أبحث بها ما دوّنته العامة من الصحف والكتب بادئاً بقريتي “الشبكي” وبعد عقدين ونيّف قمت بتسجيل بالصورة والصوت المصدر التوثيقي المعاصر للأحداث لتعود بي الذاكرة لصغري حينما كان يسردها لنا والدي المجاهد “متعب الجباعي” أحداثاً ووقائع. وبالفعل عدت الى القرية وسجلت لوالدي ساعات وبدأت بالبحث بين المراجع والكتب والصحف والوثائق في المتاحف العالمية والمحلية، لأنجز كتاباً نافت صفحاته عن تسعمئة صفحة ووثائقه عن خمسمئة وثيقة.
النشاط الاجتماعي والثقافي:
الدكتور” غازي حسين” أحد المغتربين في “النمسا” الملازم لنشاطه منذ نصف قرن أوضح: عرفت الباحث المهندس “سميح متعب الجباعي” منذ منتصف السبعينيات القرن الماضي وكان نشاطه مفرطاً في ربط العلاقة الانتمائية الوطنية والاجتماعية وهو ما زال طالباً في كلية الهندسة الميكانيكية، إذ قام بالتواصل من خلال سفارة الجمهورية العربية السورية في “بودابست” مع القيادة “السورية في دمشق” ووضع الحجر الأساس لمكتب الاتحاد الوطني لطلبة سورية فرع “النمسا” إلى جانب تشكيل أول حلقة لحزب البعث العربي الاشتراكي أيضاً، واذكر أنه تمت دعوته من قبل الاتحاد الوطني لطلبة “سورية” لحضور المؤتمر العام السابع وكان برفقة وفد من ممثلين عن اتحاد طلاب الاشتراكية العالمية “النمسا” وممثل عن اتحاد الطلبة من مختلف الأطياف، وحين عاد من المؤتمر السابع كلفه الاتحاد الوطني لطلبة “سورية” في استئجار مقر ووضع فيه جميع الإمكانيات من أجل لقاء جميع الطلبة العرب. وهذا ما حصل. وكنا نحن الطلبة في ذلك الوقت نمثل كل النشاطات السياسية والحزبية والطالبية والتنظيمية لأن في تلك الفترة لم يكن لسورية أي تمثيل سياسي أو رسمي في “النمسا” وجميع الفعاليات والنشاطات كانت تقع على عاتقنا نحن الطلبة لإثبات مواقفنا الوطنية والقومية العربية. وفي فترة تزيد عن عقد ونيّف انكب على البحث التاريخي وأصدر كتاباً بجزءين يوثق فيه أحداثاً تاريخية أسماه “من ذاكرة الثورة السورية”.
أخيراً لعل دوافع الحياة بما حملت من شقاء في مواجهتها والاستمرار في تحقيق الهدف المنشود جعلت من عوامل الاغتراب الحافز لتجسيد روابط الانتماء بعمل ثقافي إنساني واجتماعي، بحيث حمل من والده متعب الجباعي لقبه “ذاكرة الثورة” وهو اللقب الذي منحه إياه المجاهد “زيد الأطرش” شقيق القائد العام للثورة السورية الكبرى، ليغني المحتوى الإبداعي التوثيقي بموسوعة تاريخية حملت لقب والده “ذاكرة الثورة” والأهم أنه حصر نفسه بالأحداث الممتدة من عامي 1920-1939. وهذا ما جعل المهندس سميح جباعي يشكل نموذجاً بين اخوته المغتربين بحمل العلم والتحسين الاقتصادي وانعكاس ثروته على التنمية المجتمعية ثقافياً واجتماعياً وإنسانياً… من خلال تأسيسه مركز سميح للتنمية والثقافة والفنون بنشر معلومات ووثائق أحداث الثورة السورية الكبرى والمبادرة الإنسانية بتقديم المنح الدراسية لأكثر من خمسين طالباً وطالبة، وبالتالي استطاع أن يجعل دوافع الشقاء في الاغتراب تجسد ثقافة التنمية بالانتماء.