زباد حافظ*
على ما يبدو ما زال موسم الصفائح التكتونيّة المتحركة قائماً. فهي تنتج الزلازل والبراكين وموجات التسونامي التي تغيّر ملامح الطبيعة وحياة البشر. من الواضح أن الأسبوع الأول من شهر آذار/مارس سنة 2023 كان مليئاً بتلك التغييرات المناخية السياسية والاقتصادية والمالية التي تؤثّر بشكل مباشر على حياتنا جميعاً. فبعد الاتفاق التاريخيّ في بكين الذي أعاد العلاقات الدبلوماسية بين حكومة الرياض وحكومة طهران وما ينطوي من تغييرات في موازين القوّة على الصعيد العالمي والإقليمي والعربي فهناك زلزال من نوع آخر شهدته الولايات المتحدة، ولكن مع تداعيات دولية وإقليمية وهو إفلاس عدد من المصارف الإقليمية الأميركية.
هدفنا الآن شرح بشكل مبسّط ما حصل في الولايات المتحدة وما هي التداعيات المحتملة. فما حصل هو إفلاس عدد من المصارف المحلّية، أي الخاصة بالولايات وليس على مدى الدولة الاتحادية، وذلك في فترة قصيرة جدّا خلال عدّة أيام فقط. أبرز هذه المصارف هو مصرف سيليكون فالي بنك الذي يأتي في المرتبة السابعة عشرة في قائمة المصارف وفقاً للحجم. أي أنه مصرف كبير نسبياً ولكن ليس بمستوى المصارف العملاقة. محفظته المالية لا تتجاوز 200 مليار دولار مقارنة مع التريليونات من الدولارات لمصرف جي بي مورغان شايز، أو مجموعة سيتي بنك، أو بنك أوف أميركا، أو مصرف ويلز فارغو. امتاز مصرف سيليكون فالي بنك بتمويل المشاريع التكنولوجية وخاصة تلك الشركات المبتدئة (start ups) التي يساهم فيها المبادرون الرأس الماليون (venture capitalists). وهذا القطاع التكنولوجي يشكّل درّة التاج للمشاريع الصناعية والتكنولوجية التي امتازت فيها الولايات المتحدة والتي لها علاقات وثيقة مع المجمّع العسكري الصناعي. والجدير بالذكر أن عدداً كبيراً من الشركات التابعة للكيان الصهيوني تعمل في كاليفورنيا في منطقة سيليكون فالي بالقرب من مدينة سان فرنسيسكو واستفادت من تمويل ذلك المصرف.
السبب المباشر لإفلاس مصرف سيليكون فالي بنك هو شراؤه منذ فترة كمّية كبيرة من سندات الخزينة الأميركية والطويلة الأجل اعتقاداً منه أن الفوائد على سندات الخزينة لن ترتفع وستستمر منخفضة وقريبة من الصفر. وقد أقدم المصرف على شراء تلك السندات ليس من باب المضاربة بل لتأمين أصول مكفولة توازي الودائع لديها والتي لم توظّفها. فهي تشبه عملية تسنيد الودائع. إلاّ أن موجة التضخم التي برزت بعد جائحة كورونا في 2021 أجبرت الاحتياط الاتحادي الذي يقوم بمهام المصرف المركزي برفع الفوائد. النتيجة المباشرة لذلك الإجراء هو انخفاض قيمة سندات الخزينة وخاصة تلك الطويلة الأجل. فهناك علاقة عكسية بين قيمة السند والفائدة فكلّما انخفضت الفائدة ارتفعت قيمة السند وبالتالي “الضمانة” كاستثمار سليم وبعيد عن المخاطر. لذلك تقدم المصارف على دعم أصولها المالية مقابل الودائع لديها، وهي من المطلوبات في ميزانيات المصارف، على تأمين أصول مالية ثابتة أو مستقرّة القيمة. ما حصل للمصرف المذكور هو انخفاض قيمة تلك السندات بسبب ارتفاع الفائدة التي اعتمدها الاحتياط الاتحاديّ ما أدّى إلى إيجاد فجوة بين الأصول المالية والمطلوبات أي الودائع. أما المصارف الأخرى التي أقفلت أبوابها فهي أيضاً حاملة لسندات خزينة طويلة الأجل إضافة إلى مضاربات مالية غير موفّقة بالنقد الرقمي الذي شهدت أسواقه انهيارات احتيالية كبيرة كشركة أف تي أكس التي أفلست في أواخر شهر تشرين الثاني 2022، وشركة بلوك فاي، وثري أروز كابيتال وذلك على سبيل المثال وليس الحصر.
الإجراءات التي اتخذتها إدارة بايدن لفتت النظر إذ بادرت إلى حماية الودائع لدى سيليكون فالي بنك وليس لحماية المساهمين والمدراء التي توعّدت بملاحقتهم قضائياً. والسيولة التي جهّزتها مع الاحتياط الاتحادي تصل إلى 25 مليار دولار. وهذه بادرة فريدة لأنها تشمل جميع المودعين بغض النظر عن حجم ودائعهم. وهناك مؤسسة تضمن الودائع لكن بسقف 250 ألف دولار أي أن هذه الإدارة معنية بحماية المودعين الكبار وذلك على حساب المكلّف الأميركي الذي يدفع الضرائب لتمويل تلك الصفقات. هذا خلل بنيوي وأخلاقي ستكون له ارتدادات كبيرة على الثقة بالمؤسسات الرسمية وأهلية المسؤولين في الحكم وخارج الحكم. غير أن هذه الإجراءات لم تطمئن أسواق السندات الدولية التي تشهد انهيارات كبيرة وهروباً إلى ملاذات تعتقد أنها آمنة.
لكن الخطورة في إفلاس سيليكون فالي بنك لا تكمن في حجمه لأنه صغير نسبياً مقارنة مع العمالقة كجي بي مورغان وشاز أو ولز فارغو أو سيتي غروب بل لأن انكشاف سيليكون فالي بنك للمشتقات المالية قد يصل إلى 28 مليار دولار بينما ما تحمله مؤسسات كجي بي مورغان من مشتقات تصل إلى 55 تريليون دولار. لكن كامل البنية المصرفية هشّة وأوهن من بيت العنكبوت أو القصر الورقي فيكفي أن تسحب ورقة واحدة، كسيليكون فالي بنك، لينهار الهيكل بأكمله. المشتقات هي التي تهدّد النظام المصرفي الأميركي وعبره النظام المصرفي العالمي. فهناك كلام عن ترنّح أحد أكبر المصارف السويسرية ككريدي سويس ما يجعل تأثير انهيار قطع الدومينو المصرفية إمكانية قائمة. حجم الخسائر الناتجة عن انهيار سوق المشتقات المالية لا يقدّر بل هناك أرقام فلكية تصل إلى أكثر من ألف تريليون دولار!
الأزمة المصرفية الجديدة لم تفاجئنا بل كنّا من الذين يتوقعونها منذ ما قبل 2008. وأزمة 2008 تمّ احتواؤها مؤقتاً دون إجراء تعديلات في النظام المصرفي ودون أي مساءلة ومحاسبة. فالقناعة الراسخة كانت أن الدولة ومعها المؤسسات المالية ستعمل على منع انهيار المؤسسات المالية الكبرى لما تشكّل من تهديد على الاقتصاد الأميركي والدولي. لذلك لا داعي لتغيير السلوك بل الإمعان في ضرب عرض الحائط أبسط قواعد الإدارة المالية والمخاطر حتى الوصول إلى مكافأة المرتكبين! من ساهم في احتواء الأزمة سنة 2008 كانت الخزينة الأميركية بمساعدة الصين والصناديق السيادية الخليجية التي ضخّت السيولة المطلوبة. أما هذه المرّة فستكون الخزينة الأميركية بمفردها في مواجهة تلك الأزمة. فهل تستطيع الحفاظ على النظام المصرفي وبأي كلفة ولأي مدى؟ هذا ما ستكشفه الأيام والأسابيع المقبلة.
لكن هذا لا يمنعنا من استخلاص بعض الدلالات عما يجري وما يمكن أن يجري. فهذه الأزمة أتت في سياق تحوّلات كبيرة على الصعيد الدولي وعلى الصعيد الاقتصادي والمالي. وجميع هذه التحوّلات ليست لصالح الولايات المتحدة ومعها المعسكر الغربي سواء على الصعيد السياسي والعسكري أو على صعيد الحجم والدور والنفوذ الاقتصادي. كما أن هذه الأزمة أتت نتيجة لخيارات وسياسات اقتصادية مالية بدأت منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي والتي عرضتها في مقاربات عديدة لا داعي لتكرارها بل نكتفي بذكر أهم ملامحها وهي إعادة توطين القاعدة الإنتاجية الصناعية الأميركية خارج الولايات المتحدة ودخولها عصر ما بعد التصنيع. كما أن النظام الرأس المالي الأميركي تحوّل من نظام استغلالي منتج إلى نظام رأس مالي ريعي ومالي غير منتج وبالتالي منكشف تجاه العالم وخاصة عالم الجنوب الإجمالي كدول مجموعة بريكس.
أما الأسباب المباشرة للأزمة الحالية فتعود إلى سياسة السلطات الأميركية في مكافحة التضخم المالي الناتجة عن إجراءات عديدة عبر السنوات الماضية في ضخّ كمّيات كبيرة من السيولة وفقاً للسياسات النيوليبرالية والنقدية. الإدارة الأميركية الحالية تتهم روسيا بتسبّب التضخم عبر ارتفاع أسعار الطاقة بينما التضخّم المالي بدأ حقيقة في بداية ولاية بايدن وفي ذروة جائحة الكورونا. فالإجراءات التي اتخذتها كل من إدارة ترامب ومن بعدها إدارة بايدن من إيقاف العجلة الاقتصادية ومن ضخّ مساعدات مالية للمواطنين تجاوزت التريليون دولار أدّت إلى إيقاف سلسلة التوريد وتخفيض عرض السلع بينما السيولة بين المواطنين كانت مرتفعة. فكمية أكبر من النقد المتداول تلاحق كميّة أقل من السلع ما أدّى إلى ارتفاع السلع. عودة العجلة الاقتصادية لم تأت حتى الساعة بعودة سلسلة التوريد لتعمل بفعالية ما جعل عرض السلع دون المستوى المطلوب فجعلت الضغوط التضخّمية مستمرة ومرتفعة. والإجراءات الطبيعية لاحتواء التضخم المالي عندما يكون سببه ارتفاع كلفة الإنتاج وزيادة الاستهلاك فتكون في رفع أسعار الفائدة وتخفيض السيولة. لكن عندما يكون التضخّم سببه انتقاصاً في العرض فسحب السيولة عبر رفع الفائدة لا يفيد! المطلوب إجراءات تساهم في زيادة الإنتاج فالعرض للسلع. لكن السيولة التي تمّ ضخّها في الاقتصاد الأميركي ذهبت لزيادة في الاستهلاك الذي لا ترافقه زيادة في الإنتاج خاصة بعد إيقاف العجلة الاقتصادية بسبب جائحة كورونا.
بعض الاقتصاديين الأميركيين الناقدين لسياسات الاحتياط الاتحادي يعتبرون أن رفع الفوائد على سندات الخزينة هدفه كبح موجة التضخم المالي الذي يعود إلى ارتفاع الأجور بعد جائحة كورونا. فمايكل هدسون يعتبر أن سياسة السلطات النقدية هي كبح موجة ارتفاع الأجور عبر تخفيض السيولة ورفع الفوائد. هذا صحيح ولكن لا يعطي الصورة الكاملة. فالسياسات النيوليبرالية المعتمدة منذ وصول دونالد ريغان إلى البيت الأبيض والتي كرّستها سياسات كلنتون واوباما في ما بعد أدّت إلى رفع أسعار الأصول المالية (financial asset pricing) بشكل مصطنع دون أن يتلازم مع نمو الاقتصاد العيني أو الفعلي. فأمولة (financialization) الاقتصاد الأميركي أدّت إلى تضخّم القطاع المالي وترسيخ إنتاج الثروة عبر التلاعب في الأسواق المالية. تصحيح الوضع يتطلّب تضحيات وقرارات قاسية تجاه المستفيدين من النظام القائم وهذا ما لا تستطيع الإقدام عليه القوى السياسية المتنافسة في الولايات المتحدة. فهناك شبه إجماع على اتباع سياسة “تأجيل” الاستحقاقات المرّة دون إمكانية إلغائها. فعاجلا أم آجلا ستواجه السلطات الأميركية واقعاً يفوق طاقتها وقدراتها على الدفع وعندئذ يقع الانهيار.
أما السبب الثاني المباشر للتضخّم هو سلسلة العقوبات على روسيا لمنع وصول الطاقة الرخيصة إلى أوروبا وارتفاع أسعار المشتقات النفطية كالأسمدة التي تحتاجها الزراعة. فالعقوبات أضّرت بالاقتصاد الأوروبي وبالتالي ساهمت في تفاقم التضخم. بدلاً من إعادة النظر في جدوى العقوبات التي لم تؤدّ إلى انهيار الاقتصاد الروسي ما زالت الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي متمسّكين بها ويدفعان بالتالي في المزيد من التراجع الاقتصادي دون إيقاف موجة التضخم الذي أجبر الولايات المتحدة والدول الغربية على رفع الفائدة على سندات الخزينة التي تصدرها ما أدّى إلى انخفاض كبير في قيمتها بسبب العلاقة العكسية بين سعر السند ومستوى الفائدة.
الإفلاس في عدد من المصارف الأميركية أظهر مجدّدا هشاشة النظام المصرفي الأميركي الذي لم يستخلص الدروس من الأزمة الماضية. وكما ذكرنا، لن يكون هذه المرّة من تنسيق دولي لاحتواء الأزمة بعد استعداء كل من الصين ودول الخليج. كما أن الأزمة كشفت عدم كفاءة السلطات الأميركية وخاصة الاحتياط الاتحادي والمصرفيين في إدارة القطاع النقدي والمالي في الولايات المتحدة. فرداءة الأداء الحكومي يحاكي رداءة الأداء المصرفي الخاص وبالتالي ينذر بالمزيد من الأزمات. قد تنجو الولايات المتحدة هذه المرة لأن المصارف المصابة مصارف صغيرة نسبياً ومحلية ومحصورة في قطاع اقتصاد محدد. لكن ماذا عن المستقبل؟ فهل تستطيع هذه الإدارة والقائمون على النظام المصرفي تجنّب أزمات تهدّد الولايات المتحدة والعالم؟ لا نعتقد ذلك. فالحل هو فصل النظام المالي والنقدي العالمي عن المنظومة التي تتحكّم بها الولايات المتحدة ومعها العالم الغربي. هذه هي مهمة البريكس ومؤسساتها والنظام العالمي الجديد الذي لا قوامة للغرب عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي.