تدور فكرة في بالك، فتستيقظ على إعلانٍ يعرف ما دار في بالك ليلًا. ليس لأنك كتبته على محرك بحث، ولا لأنك تحدثت عنه علنًا، بل لأنك همست به داخل محادثة خاصة مع ذكاء اصطناعي ظننته محايدًا، أو ربما وقفت لبعض الثواني على منتج مشابه على فيسبوك، لكن من الغد، هذا السيناريو لم يعد افتراضًا أدبيًا، بل سياسة مُعلنة.
ابتداءً من 16 ديسمبر 2025، تدخل شركة «ميتا» مرحلة جديدة تُحوِّل فيها محادثات المستخدمين مع أدوات الذكاء الاصطناعي إلى وقود مباشر للإعلانات. خطوة تضع الخصوصية الرقمية في مواجهة مفتوحة مع منطق الربح، وتطرح سؤالًا هامًا: هل تخسر ميتا ثقة المستخدمين؟
الإعلانات التي تقرأ الأفكار.. صدفة أم اختراق للخصوصية؟
تعد ظاهرة ظهور إعلان لمنتج أو فكرة خطرت على بال المستخدم قبل لحظات من أكثر الظواهر إثارة للجدل في عصر التكنولوجيا. وفي حين يميل الكثيرون إلى اتهام تطبيقات التواصل الاجتماعي بالاستماع المباشر عبر الميكروفون، يوضح الخبراء أن التفسير الحقيقي يكمن في قوة الاستهداف السلوكي المتقدم والتحليل التنبؤي للبيانات.
تعتمد شركات الإعلان العملاقة، مثل “ميتا” و”جوجل”، على تجميع كميات هائلة من البيانات من مصادر متعددة؛ بما في ذلك سجلات البحث على الويب، والتفاعلات الاجتماعية، وحتى التنقل بين المواقع عبر أدوات التتبع (Pixels). هذه البيانات تتيح للمنصات التنبؤ باحتياجاتك ورغباتك قبل أن تدركها بوعي كامل. فالإشارة السلوكية الصغيرة التي لم تتذكرها (مثل نقرة سريعة على مراجعة منتج أو رسالة نصية قصيرة) هي التي تشعل فتيل الإعلان، وليست بالضرورة محادثة صوتية مسجلة.
ورغم استمرار الجدل حول فرضية الاستماع عبر الميكروفون، حيث تنفي الشركات ذلك وتؤكد أنه غير عملي من ناحية استهلاك الطاقة، إلا أن العامل النفسي يلعب دورًا مهمًا. فظاهرة “الانحياز التأكيدي” تجعل المستخدم يركز على الصدفة المذهلة للإعلان الذي يطابق فكرته، متجاهلاً المئات من الإعلانات الأخرى غير ذات الصلة التي تعرض له يوميًا. في النهاية، يمكن القول إن ما يبدو وكأنه قراءة للأفكار هو في الواقع انعكاس دقيق ومعقد لسلوكنا الرقمي الكامل الذي يتم تحليله على مدار الساعة.
إليك الأسباب الرئيسية التي تجعل الإعلانات تظهر لك وكأنها “قراءة للأفكار”:
1. قوة الاستهداف السلوكي والتنبؤ (Behavioral Targeting)
هذه هي الآلية الأقوى. شركات مثل جوجل وميتا (فيسبوك/إنستجرام) تجمع كمية هائلة من البيانات عنك من مصادر مختلفة:
سجل البحث على الإنترنت (Search History): هل بحثت عن مراجعات لمنتج معين أو معلومات حول وجهة سفر؟
النشاط على فيسبوك/إنستجرام (Social Activity): هل تفاعلت مع منشورات أصدقائك بخصوص هذا الموضوع، أو قمت بمشاهدة فيديو متعلق به؟
التنقل بين المواقع (Cross-Site Tracking): غالبية المواقع التي تزورها تحتوي على “بكسلات” (Pixels) أو أدوات تتبع تابعة لشركات الإعلان، والتي تخبرهم أنك زرت صفحة منتج معين (حتى لو لم تشتره).
بيانات الموقع (Location Data): هل قمت بزيارة متجر معين في العالم الواقعي؟
الشراء المسبق (Past Purchases): قد يتوقعون أنك بحاجة إلى منتج مكمل لما اشتريته سابقًا.
ماذا قررت «ميتا» فيما يخص الإعلانات؟
تبدأ «ميتا» اعتبارًا من الغد اعتماد خطة تسمح لها بتحليل المحادثات النصية والصوتية التي يجريها المستخدمون مع Meta AI، بهدف فهم اهتماماتهم وسلوكهم اليومي بشكل أعمق، ثم استخدام هذه البيانات في تخصيص الإعلانات والمحتوى على منصات مثل فيسبوك وإنستجرام.
اللافت أن هذا القرار:
يُطبَّق عالميًا في معظم الدول.
لا يوفّر خيار إلغاء (Opt-out) للمستخدمين الذين يختارون استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.
يربط استخدام Meta AI ضمنيًا بقبول استثمار البيانات الناتجة عنه إعلانيًا.
بعبارة أوضح: الدردشة نفسها أصبحت بيانات تسويقية.
من الخصوصية إلى السوق
طوال السنوات الماضية، تعامل المستخدمون مع محادثاتهم مع الذكاء الاصطناعي باعتبارها مساحة شبه خاصة؛ أقرب إلى دفتر ملاحظات رقمي أو مستشار افتراضي.
وفقًا لـ رويترز، فإن قرار «ميتا» يغيّر هذا التصور جذريًا، وينقل هذه المحادثات من خانة «التفاعل الشخصي» إلى خانة «التحليل التجاري».
صحيح أن الشركة تؤكد أن:
المحادثات المتعلقة بالدين،
أو الميول الجنسية،
أو الآراء السياسية،
لن تُستخدم في تخصيص الإعلانات،
لكن المخاوف لا تتعلق فقط بنوع البيانات، بل بالمبدأ نفسه:
متى تحوّل الحوار إلى مادة إعلانية؟
ردود الفعل بين التطبيع والقلق
القرار فجّر نقاشًا واسعًا داخل الأوساط التقنية والحقوقية.
مؤيدون:
يرون أن الخطوة:
امتداد طبيعي لنموذج الأعمال القائم على الإعلانات.
تُحسّن تجربة المستخدم عبر محتوى أكثر ملاءمة لاهتماماته.
لا تختلف جوهريًا عن تتبع السلوك على المنصات الاجتماعية.
منتقدون:
يحذّرون من أن:
المحادثات مع الذكاء الاصطناعي أكثر حميمية من أي تفاعل رقمي آخر.
المستخدم لا يتحدث هنا كـ«مستهلك»، بل كـ«إنسان».
تحويل هذا المستوى من التفاعل إلى أداة تجارية قد يخلق شرخًا عميقًا في الثقة الرقمية.
اللافت أن القرار لا يشمل مناطق ذات تشريعات صارمة لحماية البيانات، مثل:
الاتحاد الأوروبي،
المملكة المتحدة،
كوريا الجنوبية.
وهو ما يعيد فتح سؤال عدم تكافؤ حماية الخصوصية بين مستخدم وآخر.
فجوة القوانين والمعايير
يشير خبراء بتقرير فوربس إلى أن المعايير الأخلاقية في هذا المجال غير إلزامية، وتخضع لإرادة الشركات لا لسلطة القوانين.
ويؤكد الكيالي ضرورة:
تحويل هذه المعايير إلى قواعد ملزمة،
إشراك مؤسسات سيادية في حماية البيانات،
وعدم ترك مصير الخصوصية بالكامل في يد السوق.
في ظل غياب هذا الإطار، تصبح المحادثة الخاصة منطقة رمادية:
ليست علنية تمامًا، لكنها لم تعد محمية بالكامل
















