عمر شبلي*
في يوم اللغة العربية: وتأثيرها الروحي التغييري
عمر شبلي*
في يوم اللغة العربية سأتناول موضوعًا في منتهى الأهمية، وهو قدرة اللغة العربية وتأثيرها الروحي العميق في خدمة الرسالة الإنسانية التي جاءت لصلاح البشرية وإصلاحها. صحيح أنّ الإسلام رسالة سماوية منصورة بمُرسِلها، ولكن الجديد في ما أرى أن اللغة العربية كانت شراباً روحياً ساعد الرسالة في انتشارها وغوصها عمقاً في أرواح الناس. وفي هذا فضل للغة العربية على ترسيخ الإيمان. وهذا يعني أن العمق الإيماني كان ساكناً في لغة العرب، وقد أثّر كثيراً في ضخ الإيمان في نفوس الناس قبل أن يسمعوا أهداف الرسالة الإسلامية وغاياتها.
إنَّ عمر بن الخطاب أعلن إسلامه في بيت أخته فاطمة بمجرد تلاوته آيات من سورة طه، وقصة إسلامه معروفة في كتب الرسالة الإسلامية. لقد كان من أشدّ أعداء الرسول، وهو في السادسة والعشرين من عمره، وكان يضمر الشرّ لإيذاء النبيّ محمد، وسمع من أحد الناس أنّ أخته فاطمة دخلت هي وزوجها الصحابي خباب بن الأرت في الإسلام فغضب غضباً شديداً وجاء إلى بيت أخته فخافت منه عندما سألها ماذا كنت تقرئين أنت وزوجك قبل دخولي عليكما، فلم تُجبه فضربها وأدماها، وطلب منها أن تعطيه الصحيفة التي كانت معها، فامتنعت، وقالت له هذا الكلام “لا يمسّه إلّا المطهّرون”، وبعد إلحاح أخذ الصحيفة وبدأ يقرأ “طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى”. فجأة أصيب عمر بن الخطاب برعشة روحيّة، وأعلن إسلامه وطلب من أخته أن تدله على مكان وجود محمد وصحبه ليعلن إسلامه.
العبرة من هذه الحادثة هي قدرة اللغة العربية بصيغتها الإعجازية على تغيير روح عمر بن الخطاب من حاقدٍ على الرسول إلى مؤمن برسالته. هنا تبدو اللغة العربية معجزة ولها قوة من الحضور تساند الدعوة نفسها. إنّ بلاغة القرآن كانت مؤثرة جداً، وهذا يعني أنها لغة فيها كثير من أسرار الإيمان بصياغتها وغوص دلالتها الإيحائية، وعلى دارسي اللغة العربية اكتشاف هذا الإيمان في أسرار هذه اللغة الكونية.
علي بن أبي طالب كان طفلاً في بيت الرسول فسمعه يتلو القرآن مع خديجة، فشدّته الآيات القرآنية، وطلب من الرسول أن يتلو الآيات مثله ويدخل في الإسلام، فطلب منه الرسول أن يشاور أباه أولاً، وفي اليوم التالي سأله الرسول: هل شاورت أباك؟ فأجاب عليّ: “إن الله لم يشاور أبا طالب عندما خلقني فكيف أشاوره حتى أعبد الله”. لقد كان إيحاء الآيات غائصاً بعمق في وجدان عليّ فآمن.
وأكثر من هذا، فالمشركون أنفسهم سُلِبوا ببلاغة القرآن وأقروا بفرادة إيحائه وعبقرية لغته، فهذا هو الوليد بن المغيرة والذي لم يدخل الإسلام وصف لأهله ما سمعه من محمد وهو يصلّي، وقال المغيرة بن شعبة: “والله إنّ لقوله لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدِقٌ أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه”.
وهذا أمية بن أبي الصلت الذي ظل مشركاً لغلوّه وتصوّره بأن يكون مرسلاً سُحِر ببلاغة القرآن، وشهد بإعجازه عبر قول الرسول فيه: “هذا رجلٌ آمن لسانه وكفر قلبه”.
طبعاً لم تكن عظمة اللغة العربية ودفقها الإيماني والإيحائي محصورة في القرآن وحده، فالشعر العربي كان دليلاً على الأسرار العميقة والإيحاءات الروحية التي تحملها اللغة العربية، لقد كانت للغة العربية قوة تأثيرية وتغييرية في النفس العربية إلى مستوى عميق، فالحطيئة الشاعر المخضرم وضعه عمر بن الخطاب في السجن بسبب أهاجيه الناس، نراه بشعره المؤثر يُبكي عمر بن الخطاب ويُخرجه من السجن بفضل شعرٍ مؤثر أرسله الحطيئة إلى عمر بن الخطاب مذكِّراً إياه بجوع أطفاله حين قال:
ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مَرَخٍ
زُغبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبهم في قعر مُظلِمةٍ
فاغفرْ عليكَ سلام الله يا عمرُ
عبقريّة هذا الشعر أبكت عمر بن الخطاب وجعلته يلغي حكم السجن عن هذا الشاعر. هنا اللغة العربية كانت ذات لغة تغييرية كما رأينا، ومؤثرة إلى حد البكاء.
كعب بن زهير كان مهدَّداً من قبل النبي محمد بالقتل بسبب هجائه، فلجأ إلى الشعر فغَّير رأي الرسول، وألقى عليه الرسول بردته تكريماً له بعد أن كان آمراً بقتله. إن الشعر الذي يؤثّر بالنبي ليس كلاماً عادياً، بل فيه صياغة إيمانية جعلت اللغة العربية روحاً تدخل في الذات فتغير أحاسيسها ومشاعرها، والقصيدة التي نالت بردة الرسول هي قصيدة “بانت سعاد” للشاعر كعب بن زهير حيث قال في قصيدته:
فقلتُ خلّوا سبيلي لا أبا لكمُ
فكلُّ ما قدّر الرحمنُ مفعولُ
كلُّ ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلةٍ حدباء محمولُ
نُبِّئْتُ أنّ رسول اللهِ أوعدَني
والعفو عند رسول اللهِ مأمولُ
إنَّ الرسولَ لنورٌ يُستَضاءُ بهِ
مهنّدٌ من سيوف اللهِ مسلولُ
كانت بردة الرسول أغلى هديّة تقدّم لشاعرٍ مذنب، فماذا يعني هذا كلُّه؟ إنه يعني أن اللغة العربية هي لغة عبقرية، تحمل ما هو أبعد من الكلمات، إنها تحمل قدرات إيمانية عالية، وتحمل قوة تغييرية عجيبة كما أسلفنا، وقد اختيرت لتكون لغة السماء إلى الأرض لقدرتها الخاصة التي أعتقد أنها أعلى من التشابه، فيها أسرارٌ أبعد من الكلام، وأكثر تأثيراً من ضرب الحسام.
لقد أدركت دول استعمارية أنها غير قادرة على الاستمرار في استعمار بلاد العرب مادام لهم لغة جهادية مُحَرِّضة تحمل قدرة تأثيرية في نفوس حامليها. قرأت أنّ طيّاراً مصريّاً كان يقصف مواقع إسرائيلية وهو يردد شعراً للشاعر الفلسطيني محمود درويش.
نأمل أن نعود لفهم عبقرية هذه اللغة التي تتفرّد بها عن باقي لغات العالم، لعلها تكون رافداً حضارياً لوجودنا الإنساني في هذه الأزمنة الصعبة.
ولنختمْ كلامنا مع الشاعر حافظ إبراهيم حيث تشتكي اللغة العربية من إهمال أهلها لها:
رَمَوْني بعقمٍ في الشباب وليتني
عَقِمتُ فلم أجزعْ لقولِ عُداتي
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ
وتنسيقِ أسماءٍ لمُختَرَعاتِ
وَسِعتُ كتاب اللهِ لفظاً وغايةً
وما ضِقتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
أنا البحرُ في أحشائه الدُّرُّ كامنٌ
فهل سألوا الغوّاصَ عن صدَفاتي
أرى لرجالِ الغربِ عزّاً ومَنْعةً
وكم عزَّ أقوامٌ بعزّ لغاتِ
*شاعر وأستاذ جامعي.
12/12/2025













