هاني سليمان الحلبي**
تسألني السيّدة الهواء
لماذا تتنفسّني
دفئاً ونداء
وهل تطيق عمرك الملآن
إن هَجُرتُكْ؟
أنظر إليها بامتنان
وأحصي دقات قلبي
وأجيب:
كيف أطيق خلوّك من حياتي
وأنت نسمة الحياة
وجمال الحياء!
أنا والزهرة توأمان
وكلانا نتنفّسك
صبحاً ومساء
بالمجّان
يا سيّدتي الهواء
أنتِ همسُ الروح إن خلت
منك الأماكن
وافترغ المكان
دعي عنك الأسئلة المستحيلة
دعي عنك أحلام الوحشة وسراب القبور
وكل أفكار الثأر وأحكام القبيلة
نحن من قبل أن نكون
كنا رفيقين
وعلى قيد نبضتين
يجمعنا حبل سرّة
مهما قست أيامنا
وغدت مُرّة
تبقين إكسير النجاة
يا سيدتي الهواء
***
كيف يدفأ بيتي
إنْ صمُتَ قلبُك؟
كيف تحجّ العصافير إلى شباكي
إنْ سكتَ لسانُك؟
وكيف ينبضُ قلبي
إن برد حبُّك؟
فكل آن هي أنتِ
وفي كل لحظ أوانُك!!
***
سنة مرّت على القران
عمراً من الوهج والتحنان
سقط رؤساء وقامت بدائل
تفكّكت جيوش وأنهارت دول
وسفكوا من دمائنا سيولا وجداول
عبرنا الطرق المقفرة
والبلاد شلو مكفّن بالدماء
تشتهي لقمتَه الأخيرة المقبرة
هذا يفاصلنا عن دبابة بعشرين
ما همه ليرة او دولار
وأولئك يتسللون من سياج خلخلة الحصين
بعدما استباحه التتار
يلعبون ببنادقه
يسرقون ذخائره
يعربشون على طائراته
يعبثون بقنابله
فتقبّلهم إحداها بانفجار
يتطايرون أشلاء خلف أسوار المطار
ونحن نكفكفُ بكاء أرواحنا
ومنذ عقود عرفنا
أن أمتنا أنقرضت
واغتُصبت
وأخذ قوّادو العروبة
يعرضونها بأسواق الدياثة
ويتلون فروض الطاعة
للراية السوداء باسم “الإسلام”
ويكرزون علينا سلوك المخنّثين
بكياسة ودماثة
دفنّا سلاحنا بالتراب ليصدأ
وجمعنا كل بقايا الجنون
وقذارة العملاء
من الوجدان ليبرأ
وارتدينا أكفاننا أوسمة يتيمة
وبللنا بالملح والماء
كل التعاويذ القديمة
وابتهلنا لله القدّوس
حنانيك أعنّا على هذا البلاء
***
كانت الحدود
في وادي الغبار
بين علبتين
تحرسهما مافيات وسماسرة
ومكوس ورشى حرس لئيم
حمر العيون خرس الألسنة
ونحن نعتل جهازنا مسافات بعيدة
لنعبر يوم الحشر
كيف نفوز بالهرب من الجحيم
لا نجد بين آلاف وقوافل
أيَّ مُعين
ويتصبّب منا عرق جليد
يتدفق من مَعين
فكلانا يحمل جثمانه
علّه يصل قبل فوات الغسل
ويجد حامل مفاتيح القبور
ما زال يقظاً
ليستحقّ الدفن أو السحل
***
عبرنا بُعيد الغياب
وخلف الجبال
بيوت أحباب
وعرين فوارس
لكن بين القلوب
أسلاك ونياط وحبال
ولا تترك الثغور محارس
تهزأ بالموت وتعلو
على الذرى جباه أشاوس
***
عبرنا
بأكفنا المثقلة
بأعناقنا المتعبة المترهّلة
مع الهاربين من المقصلة
بعد السباح بين سيول بشريّة
وبقي جهازنا مبعثراً على الطرق
تتقاذفه أقدامهم
تدوسه أرجلهم
إلا إذا وجد فتياً
يقوى على رفع المَحافظ
من أمام دفق السيول
هاتفت عماد
فوصل بعد وقت مديد
وبلغنا عشّنا المهجور
المصفّد بالحديد
في جبال الثلج
ذرفتْ عروسي دموعَها
فلم يبقَ لها من جهاز عرس
سوى ما يسترُ الجسد
“اللهمّ لا حسد”
فقلت: لا عيلك فأنت القلب والهواء
ونعشة الماء
في جفاف العروق
وأنت بنتُ البلد
ويبهت فيك عسلُ الكلام
ما صدّقتْ كيف يمكن رجوعُها فجراً
لتجد المَحافظ صففتها ملائكة على الرصيف
وما كان بالأمس من النازحين نهراً
جفّ مجراه وخلا الساحُ من الأقدام
والليل يشهد كيف بين علبتين
يُذلّ شعب في دولتين
ويفقد في أرض السلامِ السلام
****
يا سيّدتي الهواء
لم يبق من عصر المجد
سوى تذكارات الشهداء
وصورٍ تلسع أرواحنا البلهاء
سنة مرّت لحظة
لأنك النسمة المنعشة
في بوار الكهولة
ولأنك نبضة القلب الفتيّ
بزوبعة الرجولة
وأنت عطرُ التراب
وسحرُ الماء
…
*احتفاء وتذكاراً بمناسبة العيد السنويّ الأول لزواجي من السيدة فادية الجرماني في 8/12/2024
**ناشر منصة حرمون، كاتب وإعلامي ومدرب من لبنان.














