*أعتقد أننا نحن سكان الجبل أحفاد العرب الأنباط وأحفاد العرب التنوخيّين وكليهما أبناء عمومة وأصل مشترك من عرب اليمن السعيد – وليس اليمن التعيس الذي نشهده اليوم – أهل الحضارة والعمران والثقافة، وهذا ما بيّنته المصادر الكتابية الأدبية والنقوش الكتابية الأثرية.
*توفر للتنقيب الأثري إنجاز متقدّم وهو نظام إينياس أول نموذج للذكاء الاصطناعي، وهو مصمّم لفك أسرار النقوش الرومانية.
*يسهم مركز سميح للتنمية والثقافة والفنون في السويداء، جزا مؤسسه السيد سميح متعب الجباعي الله خيراً لما يقوم به من دعم لأهل العلم والثقافة في مدينة السويداء في هذه الظروف الصعبة.
تقديم هاني سليمان الحلبي
في مواكبة لمئوية الثورة السورية الكبرى، كانت إدارة منصة حرمون أعلنت عن برنامج “مقابلات 2025” وزاد البرنامج غنًى بالتوأمة التي انعقدت مع مركز سميح للتنمية والثقافة والفنون، منذ سنتين، لمواكبة هذه المئوية التي تأبى إلا أن تعمّدها الدماء والنار، لتأكيد طابعها وهويتها القومية والوطنية، وأجريت عشرات المقابلات سيكون لها إنْ شاء الله حظٌّ بنشر في كتاب مستقل في الموضوع نفسه.
وهذه المقابلة التي تطل بها منصة حرمون مع عالمة آثار وخبيرة تنقيب أثريّ، قدمت للمؤتمرات العلمية والمجلات المحكمة عشرات المقالات والأبحاث العلمية، يرد ذكرها في متن الحوار، تناولت مواضيع هامة وسجالية من تاريخنا القديم زمناً، والنابض بكنوز ما بطن في طبقات الهلك وواقعها من لقى ونقوش وآثار أبرزتها للنور أنامل وفية وسواعد فتية، وغيرها الكثير ينتظر ليكحّل النور أجفانه بنور دهشتها، هاتفة به، “أنا سورية، و”لكل إنسان في العالم وطنان، وطنه الأم وسورية لأن سورية هي أم الحضارات” (أرنست رينان).
وعالمة الآثار هي الدكتورة رحاب صالح صافي، تقدّم نفسها، وتعرّف عن نشأتها وعطائها العلمي والأكاديمي، وتعرض للمتابعين أهمية علم الآثار وقيمته العلمية والوطنية وتوظيفه للتقنية الحديثة والذكاء الاصطناعي، وعرّجت على تاريخ جبل حوران، مؤكدة بالوثائق العلمية أن سكانه الحاليين، من الموحدين الدروز وغيرهم من إخوانهم في الوطن والحياة والتفاعل الاجتماعي، هم أحفاد الأنباط وأبناء عمومتهم التنوخيّين، وهم متحدّرون من اليمن حسب رأيها، ووجدوا في الآراميين أبناء البلاد الأصليين خير جوار وتفاعل تام فشكلوا مزيجاً واحداً أسهم في تشكيل سورية التاريخية. وهذا يؤكد أصالتهم وتجذرهم في الأرض السورية قبل أي احتلال وأي هجرة وافدة حديثة.. إلى جانب أسئلة تغني الحوار.
حوار علمي شيّق ومليء بالمعلومات الوافية والمعاني الكافية جدير بانتباهكم وقراءتكم…
إعداد وتنسيق ميساء عبدالله ابو عاصي
1- حبذا تعريف زوار ومتابعي موقع حرمون عنك؟
– رحاب صالح صافي من مواليد سورية – السويداء – ملح 1972م.
السكن الحالي مدينة السويداء، أما عن العمل الحالي فهو عضو هيئة تدريسية – دكتورة محاضرة في جامعة دمشق – قسم التاريخ – كلية الآداب والعلوم الإنسانية الثانية/ فرع السويداء.
المؤهل العلمي:
*دكتوراه في التاريخ القديم/ اختصاص كلاسيك رومان/ جامعة دمشق2012م.
*ماجستير في التاريخ القديم/ اختصاص كلاسيك/ الجامعة اللبنانية – بيروت 2002م|.
*دبلوم الدراسات العليا في التاريخ القديم – جامعة دمشق 1998م.
*دبلوم التأهيل والتخصّص في الآثار والتنقيب الأثري – جامعة دمشق 1997م.
*إجازة في الآداب والعلوم الإنسانية/ قسم التاريخ/ – جامعة دمشق 1996م.
*شاركت بأعمال مواسم التنقيب عن الآثار مع البعثات الأثرية الوطنية والبعثات الأثرية الأجنبية منذ سنة 1994م حتى سنة 1999م.
*عملتُ مدرّسة لمادة التاريخ في ثانويات مدينة السويداء منذ سنة 1997م من داخل ملاك وزارة التربية/ مديرية التربية في السويداء/ حتى سنة 2013م.
2- اخترتم علم الآثار تخصصاً علمياً، ما أسباب اختياركم؟ ما أهميته لسورية وللثقافة؟ وكيف نستدل على الشخصية القومية لسورية من خلال علم الآثار بعيداً عن التفكير الحزبي والنزعات السياسية؟
– لدي شغف كبير في الآثار والمواقع الأثرية منذ الصغر، فقد ولدت في بلدة ملح في بيت جدّي سليم صافي، رحمه الله، الذي يقع في حي وسط البلدة القديمة حيث تنتشر البيوت الحجرية القديمة المليئة بأسقف الربد والأبواب الحجرية (الحلس). كان لهذا كله الأثر الكبير في انطباعاتي وتفكيري في ما بعد. كما أن الفضول المعرفي كذلك دفعني لدراسة وتتبع الحقب الزمنية التي مرّت على مسقط رأسي ومقرّ إقامتي الدائمة منطقة السويداء ومعرفة آثارها المتنوّعة بدقة.
بالنسبة لأهمية علم الآثار لسورية وللثقافة بشكل عام، فإن الآثار تُعدّ بأنواعها المادية والأدبية من أكثر مصادر المعلومات عن الحضارات – وبخاصة القديمة منها – فائدةً للمؤرخ، فنحن نستخلص المعلومات المتعلقة بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية لأي شعب من الشعوب من اللقى الأثرية المنقولة وغير المنقولة، وذلك لوجود صلة وثيقة وترابط كامل بين علم الآثار والتاريخ، فعلم الآثار هو من العلوم المساعدة الأولى لعلم التاريخ، والأرض السورية – إقليم بلاد الشام – بامتدادها الواسع غنية جداً بأوابدها الأثرية المنتشرة على كافة الجغرافية السورية. والواقع أن الآثار المنتشرة على الجغرافية السورية بأكملها قدمت إلى التاريخ أثمن المساعدة لاستكمال الأخبار الصحيحة، وسدّ الفراغ في المصادر الأدبية التاريخية التي تكلمت عن تاريخ سورية عبر العصور، بل إن دراسة الآثار السورية صحّحت في كثير من الأحيان معلومات تاريخية خاطئة.
أما عن كيفية استدلالنا على الشخصية القومية السورية من خلال علم الآثار فذلك يكون من خلال تنوّع الإرث الحضاري المادي لسكان سورية عبر العصور المختلفة.
3- ما العوائق التي اعترضتكم في مراحل النشأة وما أبرز ما انحفر فيها وجدانكم من عبرها؟ وكيف تمكنتم من بناء هوية عملية وعلمية؟ وبما تنصحون طلاب اليوم؟
– العوائق التي اعترضتني أنني لم أتمكن من التنقل عبر الجغرافية السورية بحرية، ليس فقط عائق سورية سايكس بيكو إنما عائق النزاعات والصراعات السياسية والأطماع التي ألمّت بسورية بعد ذلك، فأنا بحثت في تاريخ الأنباط ولم أستطع الذهاب إلى الأردن، أي إلى مدينة البتراء التي تمثل المركز الرئيسيّ لهم. كذلك بحثت في تاريخ وآثار هضبة حوران البركانية بأكملها ولم أستطع الذهاب إلى منطقة الجولان الذي هو القسم الغربي من هضبة حوران بسبب السيطرة الإسرائيلية عليه. وبالتالي فإن المعلومات التي توافرت لديّ عنه كانت قليلة جداً وغير كافية لدراسته، كذلك الأبحاث العلمية التاريخية باللغة العربية كانت قليلة جداً إن لم تكن نادرة في بعض المجالات بخاصة عن جبلنا جبل باشان – حوران -الدروز – العرب – الريان، فالتسمية هنا ليست بذات الأهمية الأولى للمنطقة لأن منطقة الجبل تتميز بديمومة السكن والاستمرار الحضاري عبر الحقب المختلفة، ومن الطبيعي أن تظهر مسميات عديدة له في مراحل زمنية متتابعة. أعود للحديث عن الأبحاث فقد نُشرت أبحاثٌ تاريخيةٌ وأثريةٌ مهمة باللغات الأجنبية الإنكليزية والألمانية والفرنسية وكان لا بدّ من الذهاب إلى مدينة دمشق للحصول عليها – شبكة النت لم تكن موجودة سابقاً – ومع الأسف مكتباتنا العربية في سورية كانت فقيرة جداً بالدراسات التاريخية الأثرية التي تتحدّث عن الحضارات القديمة، والأبحاث والدراسات المهمة كانت موجودة في المراكز الأجنبية مثل IFPO مركز الدراسات الفرنسي لآثار الشرق القديم وكانت له ثلاثة فروع في الشرق الأوسط: في دمشق وبيروت وعمان، والمركز الألماني للآثار الشرقيّة، ومع الأسف أُغلق المركزان مع بداية الصراعات السياسية السورية الداخلية والفوضى الأمنية التي ألمّت بسورية في بداية 2011م. كذلك كانت وما زالت مكتبة المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق غنية جداً بالكتب والدراسات والأبحاث والدوريات العلمية التاريخية الأثرية القيمة والتي أتمنى لها السلامة والنجاة مما تشهده سورية اليوم من تغوّل قوى ظلاميّة في المنطقة لا تمتّ للإنسانية والفكر الحضاري بصلة. والذي ذلل كل هذه العقبات هو الحصول على معلومات قيّمة أفادتني كثيراً من دوائر الآثار في درعا والسويداء ودمشق وتعاون الموظفين معي. لقد استطعت الحصول على مؤلفات مفيدة وقيمة جداً من بيروت لباحثين أثريين كبار ممنوع دخولهم ومؤلفاتهم لسورية لضرورات سياسية وأمنية.
الحقيقة أن الذي حُفر بذاكرتي من خلال اهتمامي بالمنطقة وتتبع تاريخها المغرق بالقدم أنه من المعروف أن الذي يضع الخرائط السياسية هم الأقوياء والمنتصرون. لكن مهما تبدلت هذه الخرائط عبر التاريخ لا يمكن أن تقف حجر عثرة بوجه الوحدة الحضارية السورية بكافة مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية. على سبيل المثال لم تؤلف سورية – بلاد الشام – في العصور القديمة وحدة سياسية بل كانت دويلات ممالك مدن متفرقة، والجغرافية السورية المذكورة لم تعرف الوحدة السياسية إلا في العهود العربية الإسلامية الأموية فقط ولفترة زمنية قصيرة، لكن وُجدت عبر الحقب التاريخية المتتالية وحدة حضارية من حيث الحياة الاجتماعية والثقافة واللغة، فقد سادت اللغة والكتابة الآرامية في الألف الأول قبل الميلاد في سورية وكانت لغة المراسلات الدولية والتبادل التجاري في العالم المتمدن آنذاك كما هي الحال مع اللغة الإنكليزية في حاضرنا اليوم، وبالرغم من أن الأرض السورية كانت مجموعة ممالك مدن فينيقية موجودة على امتداد شاطئ البحر المتوسط، ومجموعة كبيرة من ممالك المدن الآرامية على امتداد أراضي سورية الداخلية المعروف منها حتى اليوم قرابة 15 دويلة آرامية منها مملكة آرام دمشق والتي كانت منطقة السويداء تابعة لها في فترة من الزمن وبدورها السويداء تبعت المملكة النبطية ثم كانت ضمن الخارطة السياسية للولاية العربية الرومانية التي أحدثها الرومان سنة 106م بعد احتلالهم للمنطقة. وخلاصة هذا القول إنه عندما يتخطى الباحث الخريطة السياسية لمنطقة ما بخاصة منطقتنا والتي تقع في الفضاء الجغرافي السوري والذي هو مفتوح على الفضاء الجغرافي لشبه الجزيرة العربية، وينظر للأحداث بنظرة علمية واقعية وحضارية متكاملة، عندها ربما يتمكن من بناء هوية علمية وعملية. وأنا لا أجزم أنني تمكّنت من بناء هذه الهوية بالكامل، فالكمال لله عزوجل وحده إنما أنا أضع أبحاثي بين يدي السادة القراء والمهتمين والمتتبعين لتاريخ المنطقة، علّني بذلك أكون قد ساهمت بوضع حجر الأساس المعرفي الحقيقي.
أنصح طلاب اليوم بالمثابرة والجد والتحصيل العلمي.
4- حبذا تعريف متابعي حرمون بإنتاجكم العلمي والفكري بإيجاز ممكن؟
شاركتُ في عدد من الأسابيع الثقافية، وورشات العمل الثقافية التي أقيمت في الجامعة وعدد من الندوات والمهرجانات الثقافية في مدينة السويداء.
تمّ نشر العديد من المقالات التاريخية الأثرية والسياحية في مجلة معرض دمشق الدولي.
تمّ نشر عدد من الأبحاث في مجلة دراسات تاريخية وهي مجلة علمية محكمة تابعة لجامعة دمشق منها: – مدن وقرى الولاية العربية (دراسات تاريخية من 106 – 305م).
– دمشق، جبل العرب وحوران (دراسات تاريخية من القرن الأول ق.م حتى مطلع القرن الثاني الميلادي).
– الإمبراطور ترايانوس والصراع الروماني – البارثي الفارسي في الشرق في بدايات القرن الثاني الميلادي.
– التأريخ الحقيقي لنهاية الوجود النبطي السياسي في بلاد الشام سنة 111م.
– أطروحة ماجستير بعنوان الأنباط في سورية (من القرن الأول ق.م. حتى القرن الثاني الميلادي).
-أطروحة دكتوراه بعنوان الولاية العربية الرومانية في العصر الروماني من ترايان إلى ديوقليسيان (دراسة تاريخية حضارية خلال الفترة 106 – 305م).
– كتاب فصول من تاريخ جبل حوران “بحوث تاريخية أثرية اجتماعية” بمشاركة عدد من الباحثين في مدينة السويداء.
– كتاب الأنباط في حوران والصراع الدولي وسقوط المملكة النبطية وأعلن عن إشهار هذا الكتاب في كانون الأول من هذه السنة في مركز السيد سميح الجباعي للتنمية والفنون والثقافة.
5- ما دور التقنيات الحديثة في مجال التنقيب؟ وكيف تعزّز دقة الأبحاث التاريخية وتسرّع إنجازها؟ هل يسهم الذكاء الاصطناعي بترجمة بعض النصوص وتحليل اللقى؟
تُسهم التقنيات الحديثة بدور فعال في مجال التنقيب الأثري عن طريق الاستشعار عن بُعد، أي استخدام تقنيات المسح والكشف الأثري مثل صور الأقمار الصناعية وأنظمة المعلومات الجغرافية GIS وطرق تقنية أخرى.
تعزّز هذه التقنيات الحديثة دقة الأبحاث التاريخية عن طريق تحديد مواقع أثرية ذُكرت، لكنها لم تظهر أو تُرى بالعين المجردة نتيجة للعوامل البيئية والمناخية أو للعوامل البشرية. فتقوم صور الأقمار الصناعية برصد المعالم الأثرية القديمة، وبواسطة أنظمة المعلومات الجغرافية توضع خرائط رقمية تفاعلية تربط البيانات المكانية للمواقع الأثرية بقواعد بيانات وصفية لتسهيل تحليلها وسرعة إنجاز الأبحاث التاريخية، وقد استخدمت صور الأقمار الصناعية وأنظمة المعلومات GIS في سورية في العقود الماضية.
نعم يُسهم الذكاء الاصطناعي في تحليل القطع الأثرية، وتحديد عمرها ووظيفتها ومصدرها، كذلك يساعد بترجمة بعض النقوش الكتابية، سأبين ذلك باختصار شديد. من المعروف أن المؤرخين والأثريين قد اعتمدوا على خبراتهم لتحديد وقراءة النصوص الأثرية وسد فراغ الحروف المتآكلة في بعض النقوش وذلك بناءً على مقارنات ومقاربات لنقوش أخرى، وقد تستغرق هذه العملية أسابيع وأشهر عدة وهي مضنية وشاقة. أما اليوم فلدينا إنجاز متقدّم بهذا المجال فقد انتشر في العالم مؤخراً أول نموذج للذكاء الاصطناعي سمي إينياس، وبالتأكيد فإن المهتمين بعلم الأثار قد علموا به. ونظام إينياس هذا مصمّم لفك أسرار النقوش الرومانية وهو متطور عن نظام إيثاكا الأسبق منه الذي وضع لترميم النقوش اليونانية وتأريخها وتحديد مواقعها، فنظام إينياس الأكثر تطوراً يُعيد بناء النصوص التالفة ويضعها في سياقها الصحيح بزمن قياسي.
6- ما هي أبرز المواقع الأثريّة التي قمتِ بالتنقيب فيها؟ وما هي أبرز الاكتشافات التي ساهمت بها؟
عملتُ بالتنقيب عن الآثار في عدة مواقع سورية، لكن أبرزها كان في مدينة تدمر الأثرية وتحديداً في معبد بل الشهير، وكان من بين الاكتشافات العثور على بطاقات لدخول المعبد، ومجموعة من السرج وأوانٍ عدة، ولكن الأكثر أهمية كان اكتشاف أقدم كتابة تدمرية آرامية وقد قرأها المرحوم الدكتور عدنان البني مدير التنقيبات الأثرية في سورية والذي كان رئيساً للبعثة الأثرية وتم ذلك في سنة 1997م.
7- يقال إن النبط هم حلقة الوصل الرابطة بين الأراميين والعرب كيف ترى الدكتورة رحاب هذا الرأي؟ من هم الأنباط في التاريخ، ومن أين جاؤوا؟ وما مكانتهم في النسيج السوري الشامي؟ هل نحن أحفاد الأنباط؟ ما دور العرب في تشكيل سورية التاريخية؟
صدر لي كتاب بعنوان الأنباط في حوران والصراع الدولي وسقوط المملكة النبطية، وهو من سلسلة إصدارات مركز السيد سميح الجباعي في السويداء جزاه الله خيراً لما يقوم به من دعم لأهل العلم والثقافة في مدينة السويداء في هذه الظروف الصعبة. وفي هذا الكتاب توجد الإجابة الكاملة والمفصلة على هذه التساؤلات. لكنني سأجيب باختصار أن أجدادنا العرب الأنباط هم من عرب اليمن أهل الحضارة والعمران، فقد قدموا أثناء تجوالهم نحو الشمال في الفضاء الجغرافي لشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام إلى مناطق الأردن وسيناء وصحراء النقب وهضبة حوران البركانيّة بأكملها، ووصلوا في فترة من الفترات إلى دمشق وسيطروا عليها بالكامل، وامتد نفوذهم إلى البقاع في لبنان. تم كل ذلك في القرون الأولى من الألفية الأولى قبل الميلاد، فقد دخل أجدادنا الأنباط إلى جبل حوران بإجماع المؤرخين سنة 88 قبل الميلاد وأقاموا حكماً لا نزاع فيه، وعندما قدموا إلى الجبل كان الجبل عامراً بأهله الآراميين، وكلاهما أصحاب حضارة ومدنية راقية، وبالتالي اندمج الأنباط مع الآراميين بالكامل وكونوا نواة المجتمع النبطي في الجبل في تلك الحقبة، وأنا أعتقد أن كلاً من الآراميين والأنباط أصولهم مشتركة.
الأنباط بالتأكيد لهم مكانة مهمة جداً في النسيج السوري الشامي، فقد شكلت الحضارة العربية النبطية فصلاً مهماً في تاريخ سورية القديم، وتركت إرثاً حضارياً قيّماً في كافة المجالات من سياسة واقتصاد واجتماع وفكر، وخلفت لنا عدداً كبيراً من المواقع الأثرية والأوابد والأطلال، ومدن كالبتراء وبصرى والسويداء وصلخد ما زالت شاهدة على ذلك، وفي الواقع الحديث يطول عن العرب الأنباط ودورهم في معترك الحياة السوريّة.
نعم أنا أعتقد أننا نحن سكان الجبل أحفاد العرب الأنباط وأحفاد العرب التنوخيّين وكليهما أبناء عمومة وأصل مشترك من عرب اليمن السعيد – وليس اليمن التعيس الذي نشهده اليوم – أهل الحضارة والعمران والثقافة، وهذا ما بيّنته المصادر الكتابية الأدبية والنقوش الكتابية الأثرية.
تُعدّ سورية مزيجاً من عدة قوميات منذ القديم وحتى يومنا هذا، وقد ساهم المكوّن البشري العربي في تشكيل سورية التاريخية منذ قرابة منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد، طبعاً هذا بالأدلة والبراهين المادية. على سبيل المثال ذُكر مسمّى العرب بشكل صريح في النقوش الآشورية حوليات (سجلات) ملوك الآشوريين إبان غزواتهم المتكررة على سورية في الألف الأولى قبل الميلاد، ووُجدت فرضيات عدة بهذا الشأن، لكنها تفتقر إلى الإثباتات المادية القطعية والله أعلم.
8- شاركت بكتاب مشترك أصدره مركز سميح للتنمية والثقافة والفنون بعنوان “صفحات من تاريخ جبل حوران”، هل يمكن إيجاز مضمون بحثكم فيه؟ وكيف يتم إثبات أصالة أهلنا في جبل حوران قبل قدوم من قدموا في القرن السابع عشر من لبنان وفلسطين؟
كتاب فصول من تاريخ جبل حوران هو بحوث تاريخيّة أثرية اجتماعية بمشاركة مجموعة من السادة الزملاء الباحثين المميّزين في السويداء وقد عرضت في هذا المنجز العلمي خمس مقالات بحثية هي حسب التسلسل:
– التسلسل الزمني Chronology التاريخي لسورية.
– التسلسل الزمني Chronology التاريخي لجبل حوران (العرب).
– مجتمع جبل حوران (العرب) بين الماضي والحاضر.
– ثقافة الاقتصاد الريفي لجبل حوران (العرب) قديماً وعلاقته بالحاضر.
– ديموغرافيا السكان في جبل حوران (العرب) عبر العصور.
وبخصوص أصالة أهلنا الموحدين الدروز وقدمهم وعراقتهم في جبل حوران – وهذا ما أكدته النقوش الكتابية الأثرية ولست أنا، فقد تكلمت عن هذا الموضوع قبل قليل في معرض حديثي عن علم الآثار وتصحيحه لكثير من المعلومات التاريخية الخاطئة. لقد بينت في بحثي المعنون ديموغرافياً السكان في جبل حوران على مرّ العصور أنّه كان من المعروف سابقاً أن أجدادنا الموحدين الدروز – ساكني جبل حوران اليوم والذين يفتخرون بانتمائهم التاريخيّ لقبائل تنوخ العربية – قدموا إلى الجبل منذ قبل قرابة 300 أو 400 سنة فقط، لكن علم الآثار يناقض هذا التأريخ، وأخصّ النقوش الأثرية الكتابية مثل نقش فهر بن سلي من خربة أم الجمال النبطية التي تقع اليوم شمال الأردن إلى الجنوب من جبل حوران، حيث يذكر هذا النقش شخصاً اسمه فهر بن سلي معلم جذيمة ملك تنوخ، ومعروف في المصادر الأدبية أن جذيمة الأبرش هو أول ملوك تنوخ المعروفين. إضافة إلى نقش النمّارة الشهير الذي عثر عليه الباحث الفرنسي رينيه دوسو في موقع النمارة في تلول الصفا شمال شرق جبل حوران والذي يذكر امرئ القيس ملك تنوخ. كذلك توجد شواهد أثرية كثيرة صححت المعلومات التاريخية الخاطئة والتي كانت متداولة في الجبل وأثبتت أن الموحدين الدروز هم أصيلون في المنطقة، وهم أحفاد أجدادنا الأنباط والتنوخيين التي ما زالت أطلالهم الأثرية شاهدة عليهم إلى يومنا هذا. وبهذا الخصوص أرجو من السادة متابعي منصة حرمون والمهتمين بهذا الشأن الرجوع لبحث ديموغرافيا السكان في جبل حوران عبر العصور وللعلم أن البحث كان قد نشر سابقاً في مجلة الشمعة على النت.
9- ماذا ترون في واقع ما يُقال عن غطاء إسرائيلي يشمل محافظات الجنوب السوري وصولاً لمنطقة شرقي الفرات لمحاذاة العراق؟ وماذا ترون في الموقف الشعبيّ العام، إن وجد، أم أنه في انقسام بلا ريح ولا جدوى؟
أولاً أنا أتكلم في التاريخ والآثار ولا أتكلم في السياسة لأن التاريخ والآثار هما علم واستنباط حقائق واقعية ثابتة، أما السياسة فهي صناعة بشرية لها تشعبات عميقة وأمورها متغيرة غير ثابتة، لكنني أقول أن عجلة الزمن مستمرة بالدوران ولا يمكن إيقافها لأن هذا معناه إيقاف الحياة المعاشية. وقد ذكرت قبل قليل أن رؤية الباحث تصبح أكثر موضوعية عندما يتخطى الخرائط السياسية التي يصنعها البشر وينظر بعين البحث العلمي الحيادي الموضوعي الحضاري والإنساني للجغرافية الذي يبحث في مجاهلها.
10- كان قاسياً انتشار فيديو لموكب سيّار جاب السويداء منذ أيام رافعاً علم كيان الاحتلال وعلم الطائفة الدرزية إلى جانب صورة نتنياهو والشيخ الهجري. ما تعليقكم؟
نعم كان المشهد قاسياً، وكان انتشار فيديوهات لسوريين في الشمال السوري قاسياً جداً وهم يرفعون أعلام الاحتلال العثماني التركي، وصور أردوغان وأعلام داعش، وكان المشهد أشد إيلاماً وقسوةً بالغزوة الهمجية على عضو من أعضاء الجسد السوري السويداء الحبيبة.
11- كيف نستعيد روابط الألفة القومية والوطنية والاجتماعية داخل السويداء وبينها وجوارها ضمن النسيج السوري العام؟
إن سكان سورية هم مزيج بشري متنوع يضم شعوباً متعددةً منذ عصور مغرقة في القدم كالأموريين والكنعانيين والعبرانيين والآراميين والعرب والغزاة الأوربيين من يونان ورومان، وحتى يومنا هذا نشاهد هذا المزيج البشري المتنوع من عرب وكرد وأرمن …..الخ، وهذا ما ميز المجتمع السوري عبر عصوره المختلفة وزيّنه بالتنوع الحضاري الثقافي الفكري المهم. لنعد معاً إلى الطبيعة فهل يمكن أن نرى لوناً واحداً يصبغ الطبيعة من حولنا؟ طبعاً لا. وإذا نظرنا إلى المجتمع السوري فإننا نشاهد نسيجاً سورياً بهياً بألوانه المتعددة المتنوعة، وقد مرت على النسيج السوري أوقات سلام واستقرار وازدهار، وأنتج السوريون ضمن فترات السلم أعظم المدنيات والمنجزات الحضارية. كذلك مرت فترات عصيبة من اضطرابات أمنية وحروب دامية داخلية وغزو خارجي على هذا النسيج المجتمعي مما أنتج خراباً ودماراً للمدن والممالك، لكن الجغرافية السورية بقيت صامدة تنقل لنا أخبار الأولين بانتصاراتهم وأفراحهم وآلامهم وأحزانهم ومعاناتهم. وحاضرنا اليوم أقولها وبكل غصة ومرارة أن كافة المكونات السورية لديها من الآلام والأوجاع والمحن ما يجعلها تفقد الثقة ببعضها البعض. لكنني أؤمن بقدرة الله عز وجل أنه سينتصر للحق وللمظلومين في نهاية المطاف وبعد طغيان الظلم والإثم والعدوان. وأثق بقدرة الإنسان السوري من كافة ألوانه ومكوناته أنه سيغلّب العقل والحكمة، وأعتقد أن النسيج السوري سيتخطى يوماً ما فترة المحن والآلام، وتعود روابط الألفة والمحبة وستسود الإنسانية من جديد.
12- كلمة ٌ أخيرةٌ تحبّين قولها عبر موقع حرمون.
أشكركم جميعاً في موقع إدارة حرمون وأتمنى لكم التوفيق الدائم والمستمر. دمتم.






















