هاني سليمان الحلبي*
1- عندما عاجل الموتُ صديقي الطيّب الذكر الشاعر نظمي جمال، حضرتُ مأتمه في بلدة المحيدثة، قضاء راشيا، وكانت في جيبي كلمة صغيرة تحيّة لروحه ووفاء لصداقته الأبويّة النبيلة، لكن الظرف لم يسمح بإلقائها على منبر المأتم حينذاك، فقرّرتُ إرسالها إلى الصفحة الثقافيّة في الجريدة العَلَم التي كنتُ أعمل فيها حينها محرّراً، وبقيتُ فيها طيلة 24 سنة متواصلة، وهي جريدة السفير، بقصد نشرها بِراً بوعد أمام نفسي وأمام روح صديقي الكبير.
مضى شهر ولم يحفل بها زميلنا الشاعر الكبير عباس بيضون، طالبته بها، فعلّل عدم النشر أو التجاهل بأنه نص ليس فيه ما يُقال، كلام عاديّ لا يهم الصفحة الثقافية!! فعلّقت على رأيه بهل بهذا التعسف تدار الصفحة الثقافيّة في الجريدة الهامة طيلة 35 عاماً من عصر الصحافة الورقيّة في لبنان؟
استفزّه جوابي وتعليقي، بما فيه من قسوة وجرأة تقارب السّخرية. فعزم على تلافي تطوّر الأمر بالتنقيب عن النص ونشره بعد يومين في الزاوية اليسرى السفلى من الصفحة. وهي الزاوية الميتة فيها.
اعتبرت ما قام به الزميل الكبير عملاً تعسفياً مرّتين فقرّرت إيجاد منبري الحر مهما كلّفني من جهد ومال ولو بعد زمن!
2- مضت سنوات حتى طلب منّي صديقي الفنان عارف أبو لطيف، من بلدة عيحا – قضاء راشيا، رحم الله روحه وطيّب ذكره، أن نزور معاً بلدة راشيا الفخار – قضاء حاصبيا، لمعاينة منزل صديقه الراحل الروائي القومي نواف حردان، بناء لتوصية منه، لعله يمكن السعي لتحويله لمكتبة عامة، بالتنسيق مع ابنة الراحل نواف، وهناك خطر له أن نزور ضريحه ونلقي نظرة وداع ونقف دقيقة صمت، بعدما وجدنا بيته مهجوراً، بيتاً من حجر قديم صلد مدخله درج مرتفع يوصل إلى برندا يتفرع منها باب خشبي رئيس وشبابيكه خشبية آخذة في التشقق والتهالك ومفتوح بعض نوافذها، والطقس كانونيّ يعصف فيها فتدخل منها زخّات الشتاء ونواسيف الثلج وحبات البرد ولفحات الرياح..
تأمّلت في مصير القامات التي تغادرنا بعد أن تملاً في حياتها الزمان والمكان وتشغل الناس، لكن ما أن يطويها تراب أو يقفل وراءها باب ضريح حتى يلتهمها النسيان فلا تجد وريثاً ثقافياً أو شريكاً روحياً يهتم بتراثها ويعيد النشر والتذكير.. لعل الذكرى تنفع!!
ونحن في مطعم البحصاصة في حاصبيا نتناول لقمة غداء طيّب وأنا شارد الذهن زائغ العينين بينما صديقي الحبيب عارف يحدّثني عن نواف حردان ومجده الثقافي في البرازيل ومسعاه مع المغترب الطود المرحوم غطاس الخوري من بلدة كفرقوق لإقامة نصب للعلامة اللبناني الشويري الدكتور خليل سعاده، والد الشهيد العظيم المعلم انطون سعاده، من نحت أنامل الفنان عارف. فطنت للمام الحديث ونبّهني سؤاله إن كنت أعرفه؟ قلت بلى، قرأت له كتابه من جزءين حفيد النسور في العام 1974، بنصيحة من أستاذنا الحبيب إيلي الغناج. أعجبت بأسلوبه السلس وفكرته المتسقة وسياقه المنسوج بدهاء جذّاب. وأحببت فيه شخصية البطل هنيبعل برقة حتى لقّبني زملائي وما زال بعضهم يدرج على اللقب نفسه حتى اللحظة: هنيبعل.
3- قطفتُ من المرويّتين أعلاه ضرورة وجود منصة إعلاميّة تهتمّ بقاماتنا، المقيمة والمغتربة، لا تغويها أموال قطرية او خليجية او سفاراتية، كمعظم إعلامنا المعروف بقلة معروفه، وحيث كانت نقطة البيكار في قوس رحلتنا من راشيا لحاصبيا هي حرمون الجبل العريق، بما يعنيه في الدين والتاريخ والتراث والجغرافيا والاستراتيجية، شعرتُ أني وجدت ضالتي وحظيت بحظوتي الأيقونة أن يكون اسم المنصة حرمون.
بدأت فلترة الاسم حتى استقرّ على حرمون.أورغ (haramoon.org) في مطلع كانون الأول 2008. واستخدام لاحقة أورغ يهدف إلى أن تصبح المنصة مؤسسة ثقافية إعلامية حرمونية.
تمّ تكليف صديقين أخوين بالتصميم وانطلق الموقع بأول نموذج وأخذ يعلو ويسطع رويداً رويداً، وفق سياسة الانتماء للشخصية القومية والوطن اللبناني المشرقي والنظام الجديد المعبّر عن ما يليق بنا من مؤسسات عامة تكون للشعب ومنه وفاعلة فيه، بعد تجربتي السيئة الذكر في بلدية راشيا والاضطرار للاستقالة وحل البلدية بسبب سوء الاستجابة العامة وانعدام الشفافية على ضبط ومراقبة المال العام وتوظيفه بحرص ومسؤوليّة، والناس عامة لا تعنيها سوى جيوبها ومنافعها الفردية الخاصة، ما عدا قلة مستنيرة.
وما أن نشبت حرب الشام وعليها وفيها، منذ آذار 2011، حتى احتاجت خطط التدمير العربية والمستعربة والعبرية لتسمية مشرقية شامية مناسبة توحي بالوطنية والعراقة، فلم تجد إلا الفلسطيني المولد السيد عزمي بشارة من يتنكب تنفيذ منحاها إعلامياً تحت لافتة مركز الأبحاث وتحليل السياسات تسمية حرمون فاعتمدها بفارق حرف واحد وباللاحقة نفسها، فكانت (harmoon.org)، لمركز حرمون للدراسات المعاصرة، بعدما دأب لسنوات على إرسال أخبار مركز الأبحاث للنشر في موقع حرمون. فاضطررنا لمنع الالتباس بين الموقعين وحماية لمن يتعاونون معنا في الشام إلى التمييز بين المنصتين بتعديل اللاحقة إلى .كوم، والتركيز على سرقة الاسم من منصة مركز الأبحاث وهم ليسوا نحن بكل شيء.
تابعنا الحفر في صخر الفرادة والعزلة وعقوق الكثيرين وطَرَش المقتدرين وإحجامهم عن أي تعاون، بل وابتزازنا كلّما سنحت الفرصة، يَعِدُون بدعم يستطيعون عليه، وعندما يحققون منفعتهم يختفون. حتى بلغنا مبلغاً في العام 2020 بعد نشوب أزمة حراك 2019 أننا نعجز عن إعادة الحجز في نطاق الإنترنت، فأطلقتُ نداء إلى كل مَن يهمه الأمر. بلغ العدد عشرات المغتربين شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فلم يلبِّ إلا ستة فوارس: الأستاذ الدكتور سرجون كرم (ألمانيا)، الدكتورة إيمان مرداس (الإمارات)، السيدة زكية النزق (أستراليا) والشاعرة الإعلامية غادا السمان (لبنان)، وبعد سنتين قدّمت هدية لفريق حرمون الدكتورة ماغي عارف مهنا، إثر ترشحها للانتخابات النيابية العامة في ربيع 2022، عن مقعد في دائرة راشيا البقاع الغربي، ثم الدكتور جورج رياشي كاشتراك سنوي لنشر باقة من الأخبار والبيانات كان يحتاجها حراك اللقاء القوميّ النهضويّ، وقبل هؤلاء النجوم الستة في ظلمة ليلنا كانت الزميلة الإعلامية الوفية جينا عفيش قدّرت نشر حرمون لباقة أخبار كانت ترسلها لإدارة المنصة فاقترحت اشتراكاً سنوياً على الجهة التي كانت مسؤولة إعلاميّة فيها وتم إرسال المبلغ المحدّد لإدارة حرمون.
فاستطعنا بهذا المقدار من الدعم الماليّ المحدود الصمود لنعبر إلى العام 2023، وتغذية حجز المنصة وصيانتها وفريق عاملين تراوح بين 4 أشخاص و11 شخصاً حسب الحاجة بهدايا مالية رمزية، حتى بلغنا حسب تصنيف ألكسا.كوم التابع لموقع أمازون في المرتبة 200000 عالمياً من بين أكثر من 20 مليون موقع إلكتروني، وتعرّضنا لاخترقات وتهكير أكثر من مرة: من داعش، ومن جماعة أحمد الأسير وغيرهما من التكفيريين والإرهابيين. ثم نسقت إحدى الزميلات بين إدارة المنصة والمهندس سميح متعب الجباعي (سوري مقيم في النمسا) فالتزم باشتراك سنويّ عن العام 2023-2024، لكنه لم يجدده في العام التالي ربما لظروف الحرب إثر طوفان الأقصى ولبنان وتداعياته الإقليميّة، حتى جدّده هذا العام 2025 في آخر شهر تشرين الأول، فأمكن تجديد حجز منصة حرمون لتبلغ السابعة عشرة من عمرها.
لم نكن بوقاً لشخص أو حزب أو لطائفة أو نظام أو محور. منصّات الأبواق متكاثرة كالنمل والبعوض تنقل جراثيمها من مفاسد القول والخطاب والتحريض والتشويه لتسمّم كل حياتنا ونفوسنا وما تبقى من شعبنا وبلدنا، ولا تحفل بقانون إعلام مرئي أو مسموع أو إلكتروني لم يبلغ حيّز التطبيق الوطني طيلة عقدين من السنين، وربما لن يراه من تغوّل التفاهة وانحطاط القيم وابتذال النفوس وجشع الارتزاق وتضاؤل القيمة وتهافت المعنى. وهذا الفساد الداخليّ، غول في كل بيت وأسرة ومنطقة وكيان منا، سببٌ أساسٌ في بلوغ الاحتلال محافظات في سورية ونقاط سبع في لبنان، بعد عجزه عن الاختراق خلال المواجهة الأسطورية مع أبطال الدفاع المقدس عن ترابنا، بينما هو في الواقع يحتلّ غالبية القلوب والنفوس ويمتدّ تحت ألف لافتة طائفية ولافتة حزبية، حتى يتطاول هذا الاحتلال قوافل سيّارة في الأوتوستراد المحوريّ في السويداء بعَلَم مذهبيّ مقدس يتم تلويثه ليخفق إلى جانب علم الاحتلال وتلعو صورتان لمجرم حرب الإبادة في غز.ة الشهيد.ة وشيخ ملتحٍ عليه واجب كبح الانزلاق المعيب، بعدما احتلّ هذا الاحتلال قمم جبالنا الشرقية حتى جنوب دمشق وأقام فيها مراكز مراقبة.
في العام السابع عشر لـ”حرمون” جدير بنا أن نتيقظ لنحفظ ما تبقى من نزر قليل متبقٍّ من جوهرنا ونبض ضئيل من حقيقتنا حتى لا تبتلعنا مسوخ الخيانة.
صرخة برسم الشرفاء كافة، فهل مَن يسمع..؟
وإذ ينبغي أن أشكر كل القلوب الوفيّة والأيدي النديّة والنفوس الرضيّة التي لم تتخلّ عن حرمون، بما يتعدى التسمية والتعداد، فشكلت فريقه للنشر والتحرير والصيانة والدعم الفني، طيلة 17 عاماً في ظروف الفقر والقسوة والشحن إلى جانب الرضا والعزم. وأخص بالشكر عزيمة شريكتي السيدة فادية الجرماني التي أصرّت على الاستمرار ولو بشق النفس، وينال الموقع من حرفيتها وأناملها وعينيها الكثير من الجهد والسهر.
كل تجديد و”حرمون” يكبر عاماً جديداً من العطاء والوفاء، بثقة الشرفاء به، وحرمون الجبل يبقى طاهراً من لوثة الغرباء، وبلاد حرمون تنهض قلباً واحداً وروحاً واحدة تعلو على الفرقة والفتنة، مهما تعددت ألوان بيارقها وتنوّعت صلوات معابدها لرب العالمين.
*ناشر منصة حرمون كاتب وإعلامي ومدرب.














