لا تبدو خطوة عودة السفارة الصينية إلى طرابلس، الأربعاء الماضي، وافتتاح أبوابها مجدداً بعد نحو عقد من الزمن، مجرد إجراء دبلوماسي روتيني، بل تحمل مؤشراً واضحاً على بدء مرحلة جديدة في حضور الصين داخل ليبيا، ضمن مقاربة هادئة ومنضبطة تجاه البحر المتوسط وشمالي أفريقيا، فبرغم التعامل الرسمي مع الحدث بوصفه عودة تقنية، إلا أنه يعكس انتقال بكين من الحضور الهامشي إلى تموضع منظم تتقاطع فيه المصالح الليبية الباحثة عن شريك اقتصادي موثوق، مع الحسابات الصينية التي ترى في ليبيا مساحة واعدة لم تستثمر بعد ضمن مشروعها العالمي الأوسع، في ظل سباق إقليمي ودولي على النفوذ لم ينجح أي طرف فيه في تكريس حضور اقتصادي طويل الأمد.
تمهيد اقتصادي
وعلى الرغم من الطابع البروتوكولي لحفل الافتتاح، الذي تلاه لقاء بين القائم بالأعمال الصيني ليو جيان ومسؤولين كبار في وزارة الخارجية الليبية، فإن المؤشرات الاقتصادية سبقت العودة الدبلوماسية. فقد عقدت اللجنة العليا للتعاون الليبي – الصيني في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري اجتماعاً ناقش التحضير لـ”منتدى اقتصادي مشترك” سيعقد قريباً في طرابلس، وجرى خلاله متابعة مذكرات التفاهم ومشاريع الشراكة بين الطرفين، كذلك كان لافتاً أن القائم بالأعمال زار في منتصف يوليو/ تموز الماضي مدينة درنة في شرق البلاد، ووقع عدداً من مذكرات التفاهم مع صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا في مجالات البنية التحتية والإسكان والطاقة والمرافق العامة، ما يعني أن المسار الاقتصادي كان قد انطلق بالفعل قبل اكتمال المشهد الدبلوماسي، في خطوة تعكس منهجاً صينياً مختلفاً عن قوى دولية أخرى بدأت حضورها السياسي أولاً ثم لحقت به أدواتها الاقتصادية، بينما فضلت بكين تأسيس الأرضية الاقتصادية ثم تتويجها بالعودة الرسمية.
وأدلى القائم بالأعمال بتصريحات لوكالة “شينخوا” أكد فيها استعداد بلاده لتعزيز التعاون في مختلف القطاعات وتوسيع العلاقات الاقتصادية والثقافية والتقنية، مشيراً إلى ترحيب الخارجية الليبية بالخطوة لكونها تمهد لتنفيذ المشروعات المشتركة في مجالات الاقتصاد والتعليم والثقافة والتقنية. وتظهر هذه التصريحات تقاطعاً بين الاحتياج الليبي لشركاء قادرين على تنفيذ مشاريع كبيرة، والنهج الصيني الذي يراهن على بناء جسور اقتصادية أقل كلفة من الانخراط المباشر في تعقيدات الصراع الليبي.
أكبر مصدر فردي
ورغم أن علاقة ليبيا بالصين ليست جديدة، فإنها شهدت قبل عام 2011 توقيع عشرات العقود بقيمة تجاوزت 20 مليار دولار، شاركت فيها نحو 75 شركة صينية في مشاريع البنية التحتية والإسكان والطاقة. ورغم التراجع الذي فرضته سنوات الانقسام الليبي، حافظت بكين على حضور اقتصادي مستمر، ولو بوتيرة مخفضة. وتشير بيانات مصرف ليبيا المركزي لعام 2024 إلى أن الصين أصبحت أكبر مصدر فردي إلى ليبيا بقيمة 1.5 مليار دولار من أصل 10.05 مليارات دولار واردات البلاد، أي ما يقارب 15%، متجاوزة تركيا وإيطاليا، ما يكشف أن السوق الليبية باتت تتشكل بما يسمح للصين بالتموضع باعتبارها شريكة اقتصادية رئيسة لا يمكن تجاوزها.
وتكشف الأرقام المتصاعدة أن العودة الصينية ليست حركة مفاجئة، بل استعادة لمسار سابق تعرض للعرقلة بسبب الظروف الليبية، لكنها تعود اليوم بصورة أكثر حذراً وتنوعاً في الأدوات، في ظل منافسة من لاعبين مثل تركيا التي توسع حضورها الاقتصادي في شرق ليبيا وغربها، وإيطاليا التي تعد أكبر مستثمر في قطاع الغاز الليبي. وبرغم تقارير دولية تحدثت عن بيع الصين معدات عسكرية، من بينها طائرات مسيرة، لمعسكر شرق ليبيا بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وربطت ذلك بتقارب مع الموقف الروسي المؤيد لحفتر، فإن هذه التقارير لم تستند إلى دلائل مثبتة على الأرض. كذلك لم تُبدِ الصين أي اصطفاف سياسي مع أي من طرفي النزاع، وبقيت مذكرات التفاهم الاقتصادية مع الشرق دون تنفيذ فعلي. ويؤكد هذا أن بكين لا تتحرك بدافع سياسي، بل بدافع اقتصادي صرف.
“الحياد المصلحي”
ويرى أستاذ الاقتصاد عبد السلام زيدان، أن التحرك الصيني في ليبيا لا يمكن فهمه إلا ضمن هندسة استراتيجية أوسع لدى بكين، تهدف إلى تقليل الانكشاف على المسارات التجارية التقليدية عبر شرق آسيا وقناة السويس، والبحث عن ممرات بديلة في المتوسط وشمال أفريقيا. ويضيف أن ليبيا، رغم هشاشتها السياسية، تمثل إحدى نقاط العبور القليلة التي يمكن للاقتصاد الصيني النفاذ من خلالها دون الدخول في معادلات أمنية شديدة التعقيد، ما يجعلها موقعاً مناسباً لمشاريع الصين طويلة الأمد.
ويشير زيدان إلى أن الصين ترسم خريطة نفوذ اقتصادية لا سياسية، وتعتمد في ذلك على أدوات الاقتصاد بدل القوة الصلبة. وهذا يمنحها – بحسب رأيه – قدرة على العمل فوق خطوط التصدع السياسي دون أن تحسب على أي طرف، بخلاف قوى أُنهِكَت بسبب الاصطفاف مع جانب واحد، مثل تركيا التي اضطرت لاحقاً إلى الانفتاح على معسكر خليفة حفتر، وروسيا التي بدأت توسع علاقاتها مع طرابلس، بعد سنوات من الانحياز لحفتر. ويصف زيدان هذا النهج بـ”الحياد المصلحي”، الذي لا يعني الابتعاد عن الفاعلين بل الاقتراب من الجميع بالمقدار الذي يضمن حماية المشاريع واستمرارها دون الانخراط في الصراع. ويعتقد أن هذا سيجعل الصين أكثر موثوقية لدى كل الأطراف، بحكم عدم ارتباطها بحسابات سياسية داخلية.
عوائق أمام الحضور الصيني
يضيف أن الصين تتفوق على شركائها المحتملين بفضل تنوع أدواتها؛ فهي تمتلك شركات ضخمة في البناء والتقنية والبنية التحتية والاتصالات والخدمات اللوجستية، ما يرشحها لتكون الشريك البنيوي الأقوى القادر على خلق أثر اقتصادي واسع، ولأمد طويل، دون الارتباط بتغير الحكومات أو التحولات السياسية.
ورغم العوامل المشجعة، يحذر زيدان من عوائق جدية محتملة أمام الحضور الصيني، وعلى رأسها الانقسام السياسي وتضارب مصالح السلطتين المتنافستين، إضافة إلى الطموحات العسكرية المتصاعدة لدى بعض الأطراف مثل حفتر، ما قد يجعل المشاريع رهينة تفاهمات متذبذبة. كذلك لا يستبعد احتمال نشوء ضغط غربي أو إقليمي يسعى إلى تعطيل تمدد الصين إذا ما بدا أنه يغير توازنات القوى التقليدية في شمال أفريقيا والمتوسط. ويرى أن كل ذلك لا بد أنه تحت حساب بكين عندما قررت العودة، وربما تملك معطيات تشير إلى مرحلة قريبة من الاستقرار النسبي في المنطقة، لا في ليبيا وحدها.
العربي الجديد














