لم تعد الحرب في السودان مجرد صراع مسلح، بل منظومة اقتصادية متكاملة ينشط فيها تجار الحروب ليكدسوا الثروات من معارك يموت فيها آخرون، حيث انتعشت شركات نقل وأسواق موازية وفُرضت قيود على السلع الضرورية في العديد من المناطق، ولا سيما التي تسيطر عليها مليشيا الدعم السريع.
أجمع مختصون سودانيون في حديثهم لـ”العربي الجديد” أن المنظومة الاقتصادية المستفيدة من الحرب نهبت البلد، والمواطن أصبح الخاسر الأكبر، فمن يسيطر على المناجم يملأ خزائنه، أما المواطنون فبين فقير وجريح ونازح.
في هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي محمد توفيق في حديثه لـ”العربي الجديد” أن استمرار حرب السودان لا يعني إلا أنها ببساطة تدر المال لمن أشعلها، متخذة أشكالاً مختلفة. فلم يعد استمرار الحرب محصوراً فقط في العقلية الاستثمارية أو الهيمنة، بل لإفقار البلد واستنزاف الموارد وتنفيذ أجندة مخفية لا يعلمها كثيرون. ويقول: “امتد الاستثمار من تقديم المساعدات الإنسانية إلى تجارة الدواء والغذاء منطلقا لاستمرار الحرب، وأصبح كل شيء يُباع ويُشترى في الأسواق بأثمان، حتى الدماء”.
ويتابع أن “الذين يملكون السلاح والمال يقررون من يعيش ومن يموت، ومن يتلقى الإعانات والإغاثات، كما يقررون من يحق له اللجوء ومن يبقى نازحاً في بلده ليتلقى الهبات والمعينات التي يُتبرع بها، ما يعني أن نهاية الحرب هي بالتأكيد نهاية لمشروعهم الاستثماري، خاصة وأن السودان يمتلك من الموارد ما يمكنه من أن يصبح دولة ثرية. ويضيف: “للأسف كل ذلك الدمار الذي نشاهده الآن يتم بموارد نفس الدولة التي يتم تدميرها الآن”.
ويرى المراقب والمختص في الشأن السوداني جادالله فضل المولى أنه لا بد من تفكيك اقتصاد الحرب، إذ لا يمكن تحقيق استقرار دون كشف شبكات التهريب والمصالح، وعلى العالم أن يواجه هذه المنظومة التي تطيل النزاع من أجل أن تتربح من السودان. ويؤكد أن السودان تحول إلى سوق كبير وجد فيه بعض المنتفعين ضالتهم. ويضيف: “في خضم الحرب التي مزّقت السودان أرضاً وشعباً، برز دور خفي لبعض رجال الأعمال الذين اختاروا أن يكونوا جزءاً من ماكينة التدمير، فتحولت الحرب إلى تجارة، يُتاجر فيها البعض بالدم، ويضارب بالعملة، ويُهرب الذهب، ويغسل الأموال، وكأن الوطن مجرد صفقة رابحة في بورصة خراب”.
ويقول جاد الله إن المضاربة في أسعار العملات الأجنبية، وشراء الدولار من السوق السوداء، لم تكن مجرد فعل اقتصادي عشوائي، بل عملية منظمة، يقودها رجال أعمال نافذون، ساهموا في رفع سعر الدولار إلى مستويات غير مسبوقة، ما أدى إلى انهيار الجنيه السوداني، وارتفاع أسعار السلع وتفاقم معاناة المواطن. هؤلاء لم يكتفوا بتدمير الاقتصاد، بل ساهموا في تعميق الأزمة الإنسانية، عبر حرمان الدولة من القدرة على الاستيراد، ودفعها نحو الإفلاس.
ويؤكد أن الذهب، تحول إلى سلعة مُهربة، تُنقل عبر الحدود إلى أسواق خارجية، دون أن تستفيد الدولة من عائداته، حيث تتم عمليات التهريب بمساعدة شبكات دولية لغسيل الأموال، تُستخدم فيها شركات وهمية، وحسابات خارجية، لتحويل الذهب إلى أرباح شخصية، بينما ينهار الاقتصاد وتُنْهب الثروة.
كما أن المنتجات الزراعية، التي يُفترض أن تكون ركيزة للتنمية، تُهرب هي الأخرى إلى الخارج، دون أن تدخل عائداتها إلى خزينة الدولة. تُباع المحاصيل في أسواق إقليمية عبر مقربون من المليشيا”.
ويقول المختص في شؤون النفط والخبير الاقتصادي إسماعيل محمد زين لـ”العربي الجديد” إن تدمير نفط السودان له تأثيرات متعددة، من بينها خسارة لإيرادات ضخمة في تمويل الميزانية والخدمات الأساسية للمواطنين.
ويرى أن ذلك يحصل لممارسة مزيد من الضغوط على السودان، ولكن في نهاية المطاف يؤثر ذلك على السودانيين أنفسهم بطريقة أو بأخرى لتراجع موارد الدولة. كما أن ذلك يؤثر على قدرة الحكومة على تمويل الميزانية العامة للدولة بما في ذلك الرواتب، ويزيد من التوترات الإقليمية مع دول الجوار، خاصة دولة جنوب السودان التي تعتمد في إيراداتها على 90% من عائدات النفط، ويؤدي لمزيد من الانقسامات في الدولة. وأضاف أن “هذا ما يجعل من استمرار الحرب واقعاً ملموساً عبر إضعاف طرف مقابل آخر في ظل التنافس الإقليمي والدولي، على أن استمرار الحرب له مكاسب معلومة”.
ولكن الخبير الأمني بشير ياسين يقول إن “تأثيرات ذلك يمكن أن تتمحور في عدة محاور أخرى، بجانب المحور الاقتصادي المأزوم أساساً سيزيد ذلك التوترات السياسية الداخلية وتعزيز الخلافات بين القوى السياسية حول كيفية إدارة الأزمة”. وأضاف: “قد يؤدي شح الموارد الاقتصادية إلى ضعف قدرة الدولة على السيطرة الأمنية وتمويل القوات النظامية، مما قد يزيد من احتمال عودة النزاعات المحلية المسلحة، كما يؤدي الحظر إلى تعقيد العلاقات مع دول أخرى، مما قد يدفع الحكومة إلى اتخاذ خيارات دبلوماسية محفوفة بالمخاطر”.
يقول الخبير المصرفي والمالي عمر سيد أحمد: “الحرب لم تكتفِ بتعطيل دورة الإنتاج، بل فرضت اقتصاداً موازياً ينافس الدولة على مواردها ويُعيد تشكيل أسواقها وحدودها. ومع دخولها عامها الثالث، تزايدت حدة الانهيار الاقتصادي واتسعت دائرة الفقر والنزوح، لتصبح الحرب المحدد الرئيسي لكل مؤشرات الاقتصاد الكلي والاجتماعي”.
وحسب بيانات رسمية، انكمش الناتج المحلي الإجمالي من 56.3 مليار دولار في 2022 إلى نحو 32.4 مليار دولار متوقعاً بنهاية 2025، أي بتراجع يقارب 42% خلال ثلاث سنوات فقط. وتجاوزت الخسائر المباشرة في القطاعات الإنتاجية 90 مليار دولار، مع تعطل أكثر من 60% من المصانع وارتفاع معدلات البطالة إلى أكثر من 45%. هذا الانهيار أدى إلى فقدان نحو 4.6 ملايين وظيفة وتراجع دخول الأسر بما يصل إلى 42%، بينما قفزت نسبة الفقر من 61% في 2022 إلى ما يقارب 70% من السكان بحلول 2025.















