هاني سليمان الحلبي*
غاب ظله وبقي وهجه ساطعاً.
غابت خطواته وبقيت صوته متردداً متموجاً في أسماع من يريدون السماع وفي قلوب فيها نبض الحياة الجديدة الواعدة.
لكنه في الحالين كمن يصرخ في واد. معتصماً في شخروب عيحا، منكفئاً فوق تلتها المطلة على السهل المزركش بألوان الخضرة والحصاد ومشاريع الزراعة عينه على “المغراق” وأخرى على “الهوّة” وحيناً على “الهدف”.. وإذا جال بهما نحو الشرق فيرى تلال عيحا التي تفصلها عن رخلة من الجهة الثانية لعلب الدول الورقية.. تتردّد في ذاكرته أيام طفولته ونشأته لما كان يسرح بقطيع ماشية أهله، أهل الخير والبركة، تلفته الصخور المشرئبة رؤوساً صلدة لا تعرف الانحناء لعواصف الرياح ونواسيف الجليد، والشقفان الراسخة في أعماق الجبال كالجبال تراقب سريان الفصول على وجهها التليد القاسي كقسوة الدهور.. أخذ يجبل التراب خلال قيلولته من تراب ناعم طحنته الماشية المتراكضة للعين ليكوّن منه أشكاله الأولى التي خلقها من فطرة طفل يقظ مستعدّ.
توالت الآيام أوائل خمسينيّات القرن العشرين، وحملت مع القادمين العائدين أخبار العالم الجديد من البرازيل وفرص الحياة المتفتحة والخيور المتراكمة وإمكانات تطوير الذات والنفس ومستوى الحياة.. فدبت الغيرة وتيقظت الروح لقفزة مستطاعة..
تدبَّر أمر “النايلون” (تأشيرة السفر بلسان أهل ذاك الزمان) وحزم أمره على السفر إلى البرازيل وسط غضب الأهل، وسببه تسآلهم من يسرح بالماشية، ومن أين لهم أن يدبروا راعياً يحل محل الفتى العارف..؟
أسابيع وكانت قدماه فوق أرض تنين الجنوب الأميركي بألوانه الزاهية الأصفر والأخضر والأزرق، بلاد الجوهرة السوداء بيليه، عابراً مغامرة جديدة كلياً عليه.
اكتشف الحاجة لتعلّم اللغة رغم أن “العياحنة” (أهل عيحا) والرياشنة (أهل راشيا) والكفارقة (أهل كفرقوق) والضحامرة (أهل ضهر الاحمر) بالمئات في بلاد الأمازون. وله أن يتدبر أمره بالمعاملات الأولى برفقة أحدهم حتى يدرج لسانه ويتبرغل (يلهج بالبرتغالية البرازيلية).
كرّت السنوات. عاف عمل التجارة التي تتلبّس بلبوس التهريب في المثلث الحدوديّ بين البرازيل والباراغواي والأرجنتين، ومع الوقت جذبته الرسوم والفنون بعد تلبيته دعوة لمعرض فنيّ وكانت المفاجأة، عندها رآه الفنان صاحب اللوحات مهتماً ومتمعّناً في لوحاته حتى بادره بالسؤال إن كان فنانًا او متذوقاً، فحار العارف الطيب جواباً، قال: لا هذا ولا ذلك، لكن لفتني تشكيل لوحاتك. فردّ الفنان: ماذا وجدت وماذا اكتشفت فيها؟ وكم شكلاً مثلا رأيت في هذه اللوحة؟ أخذ عارف يفصّل له التشكيلات في اللوحة حتى أدهشه! فقال له: أنت الزائر الوحيد في المعرض الذي تمكّن من تفكيك هذه اللوحة. قل لي ماذا تفعل. هل تدرس الفن؟ أجابه لا. لم أدرسه. حبذا لو تكون لي فرصة بدراسته. فتلقف الفنان الفرصة وقدّم له فرصة دراسة الفن على يديه.. وبدأت جلجلة الفنان العارف أبو لطيف حتى تابع الدراسة الفنية من معهد متخصص إلى الجامعة.. مع مغتربه المكاني لتبدأ رحلته مع مغتربه القيمي والنفسي والمفهومي مع كل من حوله..
أنهى دراسة الفن، قدّم أبحاثه ودراساته بتفوق، قدّم الكثير من المشاريع، مشاريع النصب والتماثيل، في البرازيل ولبنان، من سلطان الاطرش وخليل سعاده، وانطون سعاده، وزكي ناصيف، وخليل حاوي وغيرهم كثيرون. ومعظم المشاريع كانت تعطلها الفرديات والخصوات ونهب الأرصدة المخصصة للمشروع. لكن تم إنجاز بعضها عندما توفرت لها أيد حريصة ووفيّة.
اضطر للسفر إلى السعودية، وسط الآتون السعودي في جبل الباطون وفي النحت وفي جلي البلاط، لم يتكبّر على أي عمل شريف حلال، ليبني بيته على سفح تلة مرتفعة مطلة على الأفق الشمالي والغربي، ومديرة ظهرها للطريق العام وحركة الناس المنكفئين عنه الذين يتوهمون أنهم عزلوه في وسطهم، لأنه تحرّر من روح القبيلة ومن صراعات الأزقة وعنعنات الزواريب، وليعيل أسرته ويربّي أبناءه وبناته الصغار حتى شبّوا على الخير والحب والطيبة والدماثة والأصالة. فارتفع البيت عالياً بهمّة شريكة عمره ورفيقة دربه المرحومة نهيا غطاس، الذي كسره غيابها كسراً في ربيع 2024، فامتلأ بيتهما عرسانا وعرائس تصبح الضياء.
كان لنا شرف أن يكرمنا عارف ابو لطيف بقبول تكريمه في راشيا في 20 تشرين الثاني 2025، من وزارة التربية ممثلة بمدير مكتبة بعقلين الوطنية الأستاذ النجيب والمثقف الألمعي غازي صعب، بالتعاون مع منصة حرمون ومؤسسة شهرياد. ووعدت الوزارة بتقديم الدرع التكريمية في وقت قريب لاحق، التي لم يصل ليدي الفنان الراحل حتى لحظة أخيرة من عمره وقبل مواراته في التراب المبارك بجثمانه.
والصور وبطاقة الدعوة المرفقة هي لذاك الاحتفال، لأن الفنان الطيب ليس من منسوبي الوجاهات الحزبية والطائفية الفاسدة في بلد العقار 10452 م م..
وإذ ينعى “حرمون” إدارة وفريق عمل، الفنان الحبيب العارف أبو لطيف، يتقدّم من أسرته ومحبيه ورفقائه بأحرّ التعازي، راجياً لقلوبهم خير العزاء والرضا، داعياً لإنصاف الفنان الذي لحقه فادح الظلم وفاحش التمييز.
والمجد لله والبقاء للأمة وللحق.
ويوارى جثمان الفنان الراحل الثرى اليوم الجمعة الواقع فيه 5 أيلول 2025، في بلدته عيحا.
وتقبل التعازي بعد الدفن ويومي السبت من الساعة 4 بعد الظهر حتى الساعة السادسة، في موقف البلدة.
وللتعازي عبر الهاتف:
ابنه واجب 70982098 – زوجته عبير سعد الدين 71114874
بناته:
أليسار 70931341 – زوجها أسد ابو لطيف 0016186606708
سوريانا: 70593108 – زوجها وسام التقي 03593108
أميرة: 71099837، زوجها علاء حماد: 03443016
لروح الفقيد الحبيب وعمله الطيب وإبداعه الخلود ولقلوب أسرته وأحبائه واهل الكرام خير العزاء.
*ناشر منصة حرمون، كاتب لبناني وإعلامي ومدرب.