د. عدنان منصور*
منذ أن أُنشئت منظمة الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، أرادت الدول الكبرى الولايات المتحدة، الاتحاد السوفياتي، الصين، بريطانيا وفرنسا، أن يكون لها وضعية دولية متميّزة خاصة داخل مجلس الأمن، تعطيها صلاحية استخدام حق النقض (الفيتو) ضدّ مشاريع قرارات تطرح على مجلس الأمن، وهو امتياز حصريّ للدول الخمس التي خرجت منتصرة من الحرب.
مجلس الأمن أريدَ منه صورياً الحفاظ على الأمن والسلم في العالم، ليكون ملجأ لكلّ دولة يتعرّض شعبها لأيّ نوع من أنواع الاضطهاد، والعدوان، والحرب، والتهديد، والظلم والاحتلال، من أيّ جهة كانت.
بالنسبة للدول الخمس الكبرى، لا مشكلة أمامها منذ أن بدأ مجلس الأمن الاضطلاع بمهامه، فكلّ دولة فيه محصّنة تجاه الأخرى، حيث لم تشهد دوله التي تملك حقّ الفيتو اعتداء أو تهديداً، أو حرباً، في ما بينها، إذ انّ العلاقات بين الدول الخمس رغم الحرب الباردة التي شهدها المعسكران الشرقي والغربي، ظلت وحتى اليوم تخضع لضوابط محدّدة، تمنع ايّ تصادم او مواجهة مباشرة بينها، بالإضافة الى انّ كلاً من الدول الخمس تتحكّم بأيّ مشروع قرار يطرح على مجلس الأمن ينال منها، أو لا يحوز على رضاها او موافقتها، ولا يلائم مصالحها وأهدافها السياسية والاستراتيجية.
لكن ماذا عن الدول التي لا تتمتع بحق الفيتو، لا سيما الدول الصغيرة وغير الصغيرة التي تتعرّض للغزو، والحصار، والعدوان، والعقوبات الأحادية الجانب خارج إطار الأمم المتحدة، وحياكة الانقلابات والمؤامرات ضدّها، والإطاحة بأنظمتها!؟
كيف يمكن لهذه الدول أن تحمي نفسها، وتلجأ الى مجلس أمن يديره الكبار على هواهم، لا يتفقون في ما بينهم على أكثر القضايا الدولية الحساسة التي تتعلق بدول وشعوب والتي تهدّد السلم والأمن الدوليين، فيما كلّ دولة من دول المجلس ترى المسألة وتقيّمها من منظارها الخاص، وإنْ تعارض هذا التقييم مع نصوص القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ المجتمع الدولي وقيمه؟!
هذا الواقع المرير، جعل من مجلس الأمن مجلساً مستبداً في كثير من الأحيان، يفتقر إلى الصدقية والعدالة، والضمير الإنساني، عندما يتجاهل عمداً قرارات شفافة عادلة تتخذها الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تعبّر عن إرادة معظم شعوب العالم، فيما تتصدّى دولة تملك حقّ الفيتو لتقف ظلماً في وجه القرارات، وتحول دون تنفيذها.
هي حال العديد من دول العالم المغلوب على أمرها التي تذهب الى مجلس الأمن لعرض مشكلتها عليه، تنتظر منه اتخاذ قرار عادل ينصفها، سرعان ما تجد نفسها تصطدم بفيتو دولة قابضة على المجلس، غير آبهة بميثاق الأمم المتحدة، ولا بالقوانين الدولية، والقيم الأخلاقية.
دول وشعوب تتعرّض على أيادي دول معتدية، للحروب والمجازر، والحصار، والسلوك العنصري، والإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، ومع ذلك، نجد المعتدي يحظى بحصانة، ودعم مطلق ورعاية دولة أو أكثر من دول الفيتو، ليطيح بأيّ مشروع قرار ينال من المعتدي.
هكذا أصبح مجلس الأمن في قبضة الكبار يتحكّمون بمصير العالم، الذي تلجأ اليه دوله المقهورة، ظناً منها أنها ستلقى منه الصدقية، والعدالة، والنزاهة، وترى فيه القيَم، والنزاهة، والمبادئ الإنسانية الحقة. لكن سرعان ما تجد نفسها أمام حائط مبكى تذرف على جنباته الدموع، ولا تلقى منه إلا القهر، والإحباط، والخذلان، والظلم.
في مجلس الأمن، غالباً ما يقف القويّ المستبدّ الى جانب الباطل، فيما الضعيف المقهور خارجه الذي يصبو الى الحق، مطالباً بالعدالة والإنصاف، سيجد الحقيقة المرة داخل مجلس الأمن، وخبث كلّ طرف وهو يقيس الأمور من زاوية مصالحه الخاصة، لاتخاذ القرار المناسب له، وإن تعارض قراره بشكل فاضح مع روح الميثاق الأممي، والعدالة الإنسانية، والمجتمع الدولي.
قضية فلسطين منذ 76 عاماً تبحث عن «عدالة» مجلس الأمن، ولم تجدها فيه. شعب يعاني من أشرس احتلال، ومن أبشع أنواع الحصار وجرائم القتل، والإبادة الجماعية، والتمييز العنصري، ورغم ذلك تبقى قضيته معلقة بين أنياب إمبراطورية عظمى مستبدة، تقف على الدوام الى جانب دولة العدوان والاحتلال الإسرائيلية، تمنع عنه كلّ مقومات الحياة، وتحول دون قيام دولته، والإقرار بحقوقه المشروعة. وتضرب عرض الحائط كلّ القرارات الأممية ذات الصلة بفلسطين وحقوق شعبها.
لم يتحرك الضمير الغائب للرئيس الأميركي وهو يشاهد المجازر الهمجية، والتدمير الهائل، وسياسة الأرض المحروقة التي يرتكبها جيش دولة الإرهاب في غزة ولبنان، فيما تتعمّد واشنطن تجاهل حقوق اللبنانيين، وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، حيث استخدمت حق الفيتو منذ عام 1972 وحتى اليوم، 47 مرة ضدّ مشاريع قرارات في مجلس الأمن تتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، وذلك دعماً وانحيازاً مطلقاً لكيان الاحتلال!
مع مجلس أمن كهذا، هل من أمل للدول والشعوب المقهورة التي تلجأ اليه كي تأخذ حقها منه، وهو الذي أنشئ أساساً ليكون في خدمة مصالح الطغاة الكبار وحلفائهم، وليس في خدمة الشعوب المقهورة المتطلعة إلى الحياة الحرة الكريمة، والعدل والأمن والسلام!
ما الذي فعله حائط المبكى – مجلس الأمن – للدول التي عانت وتعاني اليوم من الحروب والدمار، والفوضى، ومن تدخلات القوى الخارجية فيها؟! ما الذي فعله للصومال، والسودان، وفلسطين، وسورية، ولبنان، والعراق، وليبيا، وأفغانستان، واليمن، وأوكرانيا، والكونغو، ويوغوسلافيا، وفنزويلا، وإيران، واللائحة تطول…
ما أكثر مشاريع قرارات مجلس الأمن التي وأدتها الإمبراطورية المستبدة، وما أكثر القرارات الصادرة عنه، والتي بقيَت حبراً على ورق. وما قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بفلسطين منذ عام 1948، إلا الدليل الحي على مدى تغاضي الولايات المتحدة، عن تمرّد «إسرائيل» في عدم التزامها بقراراته، ومندوبها يمزّق بكلّ وقاحة وانحطاط أخلاقي ميثاق الأمم المتحدة أمام وفود الدول في الجمعية العامة.
مَن يحاسب مَن؟! ومَن يُلزم مجلس الأمن بتنفيذ قراراته إذا ما أرادت الدولة المستبدة تعطيلها؟! مجلس أمن تقف الدول المسحوقة على أبوابه تعرض قضيتها العادلة، فإذا بالسلطة المنحازة الاستنسابية لكلّ دولة داخل المجلس تأخذ بالاعتبار مصالحها قبل أيّ شيء آخر، لتقول كلمتها، وتتخذ قرارها، وإنْ كان القرار بعيداً عن العدالة، وحقوق الشعوب، والقيَم الأخلاقية والإنسانية.
مجلس الأمن لم يبال بأفظع هولوكوست ينفذه الجيش «الإسرائيلي» على مرأى منه ومن العالم بحق شعب فلسطين، منذ أكثر من عام، بغطاء كلي وحماية ورعاية دولة القهر العظمى! فما الذي تنتظره الشعوب الحرة بعد ذلك من مجلس الأمن، وهذه الشعوب تتساءل: أهو في خدمة السلم والأمن والمجتمع الدولي، أم في خدمة قوى الطغيان والإرهاب، والقتل، والعنصرية؟!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق