ناصر قنديل
(نائب سابق ورئيس تحرير جريدة البناء)
- يفترض أن تشكل شهادة الرائد في الجيش اللبناني محمد فرحات ومعه جنديان شهيدان بغارة إسرائيلية على مركز الجيش اللبناني في بلدة ياطر، مناسبة ليتّحد اللبنانيون وراء جيشهم، بدلاً من أن يكتفي بعضهم باستخدام لافتة الجيش فقط للنيل من المقاومة. فهذا الضابط الشهيد خير أيقونة لمفهوم رسالة الجيش الوطني في أي بلد، وهو الذي رآه كل اللبنانيين قبل سنة يواجه بعناد وطني وتصميم يبلغ حد الاستعداد للشهادة دفاعاً عن تراب وطنه. وشاهد اللبنانيون شريط الفيديو الذي ظهر فيه الرائد الشهيد فرحات حاملًا سلاحه، بينما يطلب من جنود قوات حفظ السلام الدولية “اليونيفيل“، أن ينقلوا كلامه لجنود الاحتلال، ومفاده: “أقولها للمرة الأخيرة، أبعدوا السلك الشائك من هنا، وإلا سيكون التعامل معكم مختلفًا. نحن مستعدّون لكل شيء هنا، لأنّنا ندافع عن أرضنا”، ثمّ توجّه فرحات لجنوده بالقول: “عسكر بس قلَّك لقّم بتلقّم”، في إشارة إلى الاستعداد للمواجهة مع جيش الاحتلال.
- لم يكن هناك يوماً خلاف حول الجيش في لبنان، فكل لبنانيّ يحب جيشه ويتمسك به قوياً عزيزاً مقتدراً، ولا مجال للتشكيك لحظة واحدة بوطنية قيادة الجيش وجنوده وضباطه، لأن ضعف الجيش كان ضعفاً في الوسائل لا في الروح الوطنية وإرادة الدفاع عن الوطن والتضحية في سبيله. كانت المشكلة أن الذين يملأون الدنيا في الحديث عن الجيش كبديل عن المقاومة، من لبنانيين وحكومات عربية وأجنبية، كانوا يفعلون ذلك ليكون لبنان ضعيفاً أمام الاحتلال والعدوان، لأن أحداً منهم لم يكن يجرؤ على القول إن الكيان المغتصب لأرض فلسطين على حدود لبنان الجنوبية هو كيان مسالم، أو إنه بلا أطماع نحو لبنان وأرضه ومياهه، أو إنه كيان يقيم حساباً للمناشدات الدولية، أو للقرارات والقوانين الدولية، وإن شيئاً وحيداً قد ينجح بأن يصون لبنان من خطر توحّش وإجرام هذا الكيان وأطماعه، وهو امتلاك قوة تردع هذا الكيان وتحول بينه وبين التمادي في العدوان والتطلع للاحتلال وإملاء شروط الإذعان، لكن أحداً من هؤلاء اللبنانيين لم يسع يوماً لتزويد هذا الجيش بما يمكنه من فعل ذلك، ولكن أحداً من قادة العرب والغرب الذين يتحدّثون عن الجيش كلما تحدّثوا عن المقاومة، لم يكلف نفسه عناء الإعلان عن الاستعداد لتزويد هذا الجيش بما يجعله مهاب الجانب عزيزاً قوياً.
- على حدودنا جنود يلبسون على أكتاف قمصانهم العسكرية خريطة تضمّ أرضنا حتى نهر الليطاني، ووزير حربهم يوآف غالانت عندما دعا الى إبعاد المقاومة إلى ما وراء الليطاني، قال حيث هناك تقع حدودنا الشمالية، ورئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو عندما وقف يتحدّث من منبر الأمم المتحدة حمل خريطة هي ذاتها التي يحملها الجنود على أكتافهم، وفيها أرض لبنانيّة. والطلبات التي حملها قادة الاحتلال للوسيط الأميركي كشرط لوقف الحرب لا تقف عند حدود مطالبهم من المقاومة، بل تعيد المطالبة بالترتيبات الأمنية والامتيازات التي سبق وتمّ تضمينها لاتفاق 17 أيار 1983، والتي تمثل ممارسة الوصاية الأمنية على لبنان، والعالم كله يتدخل لإقناع لبنان بالقبول ببيع سيادته وكرامته تفادياً للثمن الذي يهدّد به الكيان، تماماّ كقناع الفتاة الشريفة بقبول الدعارة لاتقاء التعرّض للاغتصاب، بدلاً من تزويدها بأسباب الدفاع عن شرفها، بينما كل هؤلاء لا يجرؤون على القول إن أحداً منهم قادر على ردع هذا الوحش عن فعل ما يشاء بلبنان عندما يعود ضعيفاً بلا مقاومته، وهم يمسكون على يد جيشه لمنعه من أن يكون أكثر من قوة حفظ أمن، لا جيشاً قوياً قادراً رادعاً.
- لعلنا نفهم أن يقول البعض إنه من غير الطبيعي أن يكون بناء دولة وفيها قوة مسلحة غير جيشها، وبالمقابل يجب على هذا البعض إن كان لبنانياً ووطنياً أن يفهم أنه من غير الطبيعي أكثر أن يكون بناء دولة على قاعدة التساكن مع عدو متوحّش مجرم لا يستطيع أحد في العالم ردعه وله أطماع في بلدنا ويُضمر لنا كل الشرور، ولا يضع في أولويات بناء الدولة تسليح جيشه بكل أسباب القوة الحديثة الرادعة لتحميه من العدوان والأطماع، وكي يكون الحديث عن رفض سلاح المقاومة نابعاً من لبنانية وطنية لا من تبعية للغرب ومن خلاله الحرص على تفوق “إسرائيل” وتمكينها من تحقيق أطماعها بأرض لبنان ومياهه وسمائه وبحره وأمنه وسيادته، يجب أن نفحص مواقف صاحب هذا الموقف، ونراجع كم من مرة سعى لفرض التجنيد الإلزامي ليكون لنا جيش قادر، أو دعا لرفع رواتب الضباط والجنود وفتح باب التطوّع في الجيش ليبلغ على الأقل مئة ألف جندي مقاتل، وبالتوازي جعل جدول أعمال علاقات لبنان الدولية تبدأ من بند من يمنحنا شبكة دفاع جوّي عصرية فاعلة وقادرة على منع طيران الاحتلال من أجواء لبنان، ومن يزوّدنا بشبكة صواريخ ضد السفن الحربية تحمي مياهنا، وبشبكة صواريخ أرض أرض من أنواع قادرة على إقامة التوازن الناري مع سلاح جو الاحتلال، إذا كان امتلاك سلاح جو مثله صعباً.
- عندما نقع على مواقف كهذه من الذين يقولون إن الجيش بديل للمقاومة، نصدّق أنهم وطنيون لبنانيون، وعندما لا نعثر لهم على أي موقف كهذا، ندرك أنهم مجرد صدى لدعوات غربية يعرفون أنها تريد لبنان ضعيفاً ولقمة سائغة لأطماع الاحتلال، فلنتمسك بالمقاومة أكثر، لأننا نريد وطننا مصاناً ومهاب الجانب، وهذا ما تحقق في زمن المقاومة ولا يزال، ولا نزال نحتفظ في ذاكرتنا ما كان قائماً مع جيش ضعيف بين عامي 1949 و1969، ولا نقبل بعودتها، وإذا أراد النائب الذي قال إن الحل الأمثل هو العودة الى هذه الحقبة دروساً عما كان قائماً، أو محو أميّة تاريخية فليقصد مديرية التوجيه في الجيش اللبناني ويطلب أرشيف ما كان عليه الحال في الجنوب في تلك الفترة قبل أن يفتح فمه بالترّهات. (جريدة البناء)