مع أن بعض الدول الخليجية ومنها السعودية تسجل عجزا في حساباتها الحكومية، وتلجأ للاقتراض المحلي والخارجي من أجل الوفاء باحتياجات تمويل التنمية، فإنها بشكل عام تملك فوائض مالية واستثمارات في الخارج، تتجاوز قيمة الناتج المحلي الإجمالي، باستثناء البحرين التي تبلغ استثماراتها الخارجية ما يعادل حوالي 75 في المئة من الناتج، في حين تبلغ الديون المستحقة عليها أكثر من 100 في المئة منه. البحرين تجاوزت مرحلة الاعتماد على النفط، لكنها لم تتمكن من بناء اقتصاد متنوع قادرا على تحقيق نمو مستدام بمحركات القطاعات غير النفطية.
وقد لاحظنا في السنوات الأخيرة ثلاث ظواهر اقتصادية مترابطة في دول مجلس التعاون الخليجي، الأولى هي ظاهرة العجز في الميزانية الحكومية، والثانية هي ظاهرة زيادة الاتجاه إلى التمويل بالاقتراض المحلي والخارجي على مستوى الحكومة والقطاع الخاص على السواء، والثالثة هي ظاهرة التوسع في الاستثمار الأجنبي المباشر على حساب الاستثمار المالي.
السعودية والعجز في الميزانية
سجلت ميزانية السعودية في العام الماضي، عجزا بقيمة 80.9 مليار ريال- ما يعادل 21.6 مليار دولار- بعد أن حققت فائضا في العام السابق بقيمة 104 مليارات ريال. وحسب وزارة المالية السعودية، فقد بلغت النفقات في ميزانية العام الماضي 1.3 تريليون ريال، فيما بلغت الإيرادات 1.2 تريليون، من بينها إيرادات نفطية بقيمة 754.6 مليار ريال، بنسبة 62.2 في المئة من الإيرادات الكلية، وتتوقع السعودية في نهاية العام الحالي 2024 عجزا في الميزانية بقيمة 79 مليار ريال ما يعادل 21.1 مليار دولار تقريبا أي أقل هامشيا من العجز المحقق في العام الماضي.
لكن تقلبات أسعار النفط، وزيادة تكاليف المشروعات الاستثمارية من شأنها أن تضع قيودا على الحكومة في تقليص العجز؛ فإذا انخفضت الأسعار تنخفض الإيرادات النفطية التي تشكل أكثر من 60 في المئة من الإيرادات العامة للدولة، وتتوقع وزارة المالية أن يصل إجمالي الإيرادات إلى حوالي 1.2 تريليون ريال (312.5 مليار دولار تقريبا) بينما من المنتظر أن يبلغ إجمالي المصروفات 1.3 تريليون ريال العام المقبل.
وتستهدف ميزانية العام الحالي تعزيز النمو في الاقتصاد غير النفطي من خلال زيادة الإنفاق على البنية التحتية والصناعات والخدمات المحلية. وتتوقع افتراضات الميزانية نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.4 في المئة في نهاية العام الحالي، كما توقعت أيضا أن يستمر العجز المالي حتى عام 2026 بسبب الحاجة إلى زيادة الإنفاق الاستثماري كما ذكر وزير المالية السعودي محمد الجدعان. هذا يعني أنه في حال انخفاض الايرادات النفطية عن المتوقع، سواء بسبب تأثير انخفاض الأسعار أو بسبب تخفيض كميات الصادرات، فإن السعودية ستكون في حاجة للاقتراض من أجل سد فجوة الإيرادات، أو إبطاء تنفيذ مشروعات استثمارية مدرجة في الخطة.
وكانت السعودية إحدى الدول النامية التي أسهمت بنسبة كبيرة في زيادة الدين العام خارج الدول الصناعية في عام 2023 إلى جانب كل من الصين والهند والبرازيل، حيث ارتفعت ديون الدول النامية في العام الماضي إلى مستوى قياسي وصل إلى 104.6 تريليون دولار مقابل 97.7 تريليون دولار عام 2022 حسب تقدير معهد التمويل الدولي، وقد ارتفعت قيمة ديون الحكومة السعودية بنهاية العام الماضي إلى 273.1 مليار دولار تعادل 25.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي طبقا لأرقام معهد التمويل الدولي، مقابل 264 مليارا في عام 2022 بزيادة 9.1 مليار دولار، بنسبة زيادة بلغت 3.4 في المئة، وطبقا لإحصاءات صندوق النقد الدولي لعام 2022 فإن مديونية الحكومة المركزية كانت تعادل 22.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في السعودية، 31.1 في المئة في الإمارات، 45.3 في المئة في قطر، 40.1 في المئة في سلطنة عمان، وتبلغ أقصاها في البحرين بنسبة 117.6 في المئة من الناتج المحلي، وأدناها بنسبة 2.9 في المئة في الكويت. نصيب الحكومة المركزية من الدين القومي في الدول الخليجية ما يزال منخفضا مقارنة بالدول غير النفطية في المنطقة، باستثناء حالة البحرين، وهو ما يمثل أحد الملامح المهمة التي تميز بصمة الدين الإجمالي في الدول الخليجية. ففي الدول العربية غير النفطية تتراوح نسبة ديون الحكومة المركزية إلى الناتج المحلي الإجمالي بين 68.8 في المئة في المغرب إلى ما يقرب من 128 في المئة في السودان و150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في لبنان.
وتشمل مكونات الدين القومي ديون الحكومة المركزية، والمؤسسات المالية مثل البنوك وصناديق التمويل الخاصة، والمؤسسات غير المالية مثل المؤسسات والشركات الصناعية والتجارية الخاصة، إلى جانب ديون القطاع العائلي بما في ذلك ديون شراء المساكن والسيارات والرصيد المدين لبطاقات الائتمان المصرفية.
نمو ديون الدول النفطية
قدرت مؤسسة ستاندرد آند بورز أن الدين الخارجي الكلي لدول مجلس التعاون الخليجي من المتوقع أن يصل إلى 660 مليار دولار بين عامي 23 – 24 مقارنة مع 250 مليار دولار فقط في عام 2013، وتستحوذ المؤسسات المالية والمصرفية على نسبة 70 في المئة من هذه الديون. وطبقا لبيانات صندوق النقد الدولي فإن قيمة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ارتفعت بنسبة 23 في المئة خلال السنوات الست الماضية، أي بنحو 4 في المئة في المتوسط تقريبا كل عام. ونظرا لأن تلك الفترة ترافقت مع جائحة كورونا، والتوترات الجيوسياسية العالمية، فإن التوسع في التمويل بواسطة الحكومات لتفادي التداعيات الاقتصادية السيئة للجائحة وحرب أوكرانيا أدى إلى زيادة ديون الحكومات بشكل عام ومنها حكومات الدول النفطية، حيث تجاوزت نسبة الدين الحكومي من الناتج الإجمالي 41 في المئة في الإمارات عام 2020، لكنها لم تلبث أن انخفضت بعد ذلك بحوالي 10 نقاط مئوية مع تحسن الأداء الاقتصادي عام 2022. ويقدر صندوق النقد أن نسبة الديون إلى الناتج المحلي انخفضت بين عامي 2020 و2023 في 13 دولة عربية.
ومع ذلك فإن مؤسسات التقييم الائتماني العالمية مثل «فيتش» و «ستاندرد آند بورز» تشير إلى أن تداعيات الجائحة تركت تأثيرا كبيرا على هيكل تمويل المؤسسات الخاصة المالية وغير المالية. وكان ضمن الظواهر الجديدة زيادة اللجوء إلى تمويل الاستثمار عن طريق القروض، وتقدر مؤسسة «فيتش» أن الديون المستحقة السداد على البنوك في الدول الخليجية خلال العام الحالي تبلغ قيمتها 16.9 مليار دولار. وتتوزع هذه القروض بحصص متقاربة بين بنوك السعودية والإمارات وقطر والكويت. كما تقدر قيمة الديون المستحقة السداد في العام القادم بحوالي 13.3 مليار دولار، يقع معظمها على عاتق بنوك الإمارات وقطر.
وتأسيسا على ذلك، تتوقع فيتش أن يبلغ حجم الإصدارات لإعادة تمويل الديون المستحقة في العام القادم حوالي 20 مليار دولار، إضافة إلى ما تم إصداره حتى الآن من أوراق مالية لتمويل احتياجات سداد الديون المستحقة في العام الحالي. وقد بلغت قيمة إصدارات الأوراق المالية بواسطة البنوك في الدول الخليجية بين الربع الأول من العام الماضي إلى الفترة المناظرة من العام الحالي ما يقرب من 20.1 مليار دولار، متجاوزة ما كان قد تم إصداره في عام 2023 بقيمة 4.9 مليار دولار، حيث كانت قيمة إصدارات إعادة تمويل الديون حوالي 15.2 مليار دولار. وقد استحوذت البنوك السعودية وحدها على 33 في المئة من قيمة الإصدارات خلال الـ 12 شهرا حتى نهاية الربع الأول من العام الحالي، في حين استحوذت البنوك الإماراتية على نسبة 26 في المئة. وتدفع البنوك الخليجية فائدة على إصداراتها بالدولار، غير المضمونة بواسطة الحكومة تبلغ 5.2 في المئة في المتوسط على الإصدارات التي يبلغ أجلها 5 سنوات. الاستنتاج الذي نتوصل إليه هنا هو أن زيادة اللجوء إلى التمويل بالديون لا يقتصر على الحكومات فقط، وإنما يشمل أيضا مؤسسات التمويل والمصارف، التي ترتبط معظمها بشكل من أشكال ملكية الدولة.
الاستثمارات الخارجية
تنظر الدول النفطية إلى مسألة الاقتراض، المحلي أو الخارجي، من باب أنه تنويع لمصادر التمويل لا يحمل مخاطر كبيرة على الاقتصاد، طالما انه في حدود القدرة على السداد، وأنه يسهم في توسيع الطاقات الإنتاجية خصوصا في القطاعات غير النفطية، وان مخاطر التمويل بالعملات الاجنبية محدودة قياسا الى الدول العربية غير النفطية. ومع ذلك فإنه يجب التحذير من التوسع غير المدروس لتمويل مشروعات البنية الأساسية الضخمة، التي تحتاج إلى تمويل كبير وإلى وقت طويل حتى تكتمل ثم تبدأ في إنتاج عائد ذي جدوى، يساعد على خدمة الديون التي تم إنفاقها في مرحلة التشييد، وتستعين حكومات دول الخليج في تمويل المشروعات بعاند الاستثمارات الخارجية جنبا إلى جنب مع إيرادات النفط، والفائض في الحساب الجاري والإيرادات المحلية من الضرائب والرسوم التي تم استحداثها في السنوات الأخيرة ومنها ضريبة القيمة المضافة ورسوم الإقامة. وطبقا لتقرير معهد التمويل الدولي في العام الحالي، فإن قيمة الأصول الاستثمارية الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي الست ارتفعت إلى حوالي 4.4 تريليون دولار، مدفوعة بزيادة متوقعة في فوائض الحسابات الجارية لدول المجموعة بقيمة 146 مليار دولار.
ويتم إدارة ما يقرب من 70 في المئة من هذه الأصول الاستثمارية بواسطة صناديق الثروة السيادية للدول الست. وفي مقابل عائد الاستثمار فإن قيمة الالتزامات الخارجية المستحقة على دول الخليج ستبلغ في العام الحالي حوالي تريليون دولار فقط، تاركة فائضا في صافي قيمة الأصول الخارجية بقيمة 3.4 تريليون دولار.
وتتنوع هذه الأصول بين استثمارات مالية ذات دخل ثابت مثل السندات وأذون الخزانة الأمريكية، والودائع، إضافة إلى الاستثمارات المباشرة في قطاعات العقارات والتجارة والصناعة وغيرها. وطبقا للمعلومات التي اعتمد عليها تقرير معهد التمويل الدولي للعام الحالي، فإن الاستثمارات في أسهم الشركات والمؤسسات تشكل 35 في المئة من مجموع الأصول الاستثمارية الخليجية في الخارج، تليها الودائع المصرفية بنسبة 22 في المئة، ونسبة 17 في المئة عبارة عن استثمارات أجنبية مباشرة، بينما يتم توظيف ما يقرب من 7 في المئة فقط من الاستثمارات في شراء سندات الخزانة للحكومة الأمريكية، ونسبة 10 في المئة في السندات المؤسسية. ويتم توظيف نسبة الـ 9 في المئة المتبقية في مجالات أخرى تشمل صفقات الاندماج والاستحواذ وصناديق التحوط، والسندات غير الأمريكية. ومن ناحية التوزيع الجغرافي للاستثمارات تستحوذ دول أمريكا الشمالية وأوروبا على النصيب الأكبر منها بنسبة 65 في المئة تقريبا، تليها منطقة جنوب شرق آسيا بنسبة 20 في المئة، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 10 في المئة، ثم تتوزع النسبة الباقية على أفريقيا جنوب الصحراء ودول أمريكا اللاتينية. ومن الملاحظ ان الميل إلى استخدام نسبة أكبر من الفائض المالي في استثمارات مباشرة قد أدى إلى تخفيض نسبة موجودات دول الخليج العربية من أذون وسندات الخزانة الأمريكية. وتشير الأرقام إلى أن قيمة هذه الموجودات انخفضت بنسبة 40 في المئة خلال الفترة من شباط/فبراير 2020 إلى أيلول/سبتمبر 2023 طبقا لتقرير معهد التمويل الدولي. هذا الميل للتخارج تدريجيا من الأصول المالية الأمريكية المضمونة ذات العائد الثابت يعكس التوجهات الاستراتيجية لتنويع الاقتصاد وزيادة قيمة الأصول الاستثمارية الخارجية. ومن الملاحظ كذلك زيادة الميل للاستثمار في المنطقة بشكل عام من باكستان إلى تركيا ومصر، في إطار تعظيم فرص التكامل الإقليمي، إضافة إلى جاذبية الاستثمار في الصين، التي تمثل حاليا المحرك الأول للنمو الاقتصادي في العالم
القدس العربي