الأستاذ الدكتور شوقي أبو لطيف
(أستاذ جامعيّ برتية بروفسور في الفلسفة ومفكر من لبنان)
في الذكرى السادسة ما بعد المئة لولادة المعلم كمال جنبلاط يبدو من الأهمية بمكان الالتفات الى الجانب الفلسفي الشرقي في مسلكه التوحيديّ من أجل معرفة أن كمال جنبلاط لم يكن ليستهدف من الممارسة السياسية نجاحات براغماتيّة، إنما كان يستهدف بناء الإنسان استناداً الى ثقافة النفس، وقد قدّم في ذلك القدوة والمثال حين ترك متاع الدنيويّات واتجه نحو اليوغا والتحققات الصوفية والمعارف اللدنية.
إن الالتفات الى هذا الجانب بخاصة من قبل عنصر الشباب هو الذي يبقي على الإرث الكمالي ممتداً في الزمن المعيوش لأنه تعبير عن الميراث المتجذّر في حياة الشرقيّين عامة، ومريدي الحكمة خاصة. ولأنه يشكل بديلاً حضارياً جامعاً عند كل انتكاسة للدعوات الدينية والمعتقدات الطقسية والسرديات الشمولية والعلمانيات الجامدة بحكم كونه طريقة متّسمة بالسهولة واليسر والبساطة التي تركن الى نظام من العيش المتميّز بالتوافق مع مجريات الطبيعة ونواميسها الحكمية. ولا يخفى على الباحث المتعمّق ان الحضارة الغربية الآيلة الى الاندحار بفعل خروج التطوّر التكنولوجي عن السيطرة إنسانياً سوف تكون لها عودة الى الاعماق من اجل سبر الاغوار الخفية للنفس الانسانية التي ما زال الغرب يقيم نظرياته في السياسة والاقتصاد والاجتماع استناداً الى الجانب الحسيّ منها متنكراً لجوهرية هذه النفس في وجودها الموازي لأصل الانبثاق الكونيّ منذ أزل الأحقاب والعصور، وهو ما تعمل على الكشف عنه وسائط العلم المتقدمة في اكتشاف الدماغ البشري ومدى اتصاله بالطاقة الكونيّة وارتقائه في مجرى التطور الحيوي نحو الحرية المشرقة برؤيا الوجود الحقيقي.
إن محاولة الغرب المعاصر ابتكار وسائل للتحكم بالاشياء في الواقعين الافتراضي والمعيوش بدءاً من “مايند فليكس Mindflex ” مروراً بالـ “برين نت” BrainNet و”صناعة التسلية” وصولاً الى “إنشاء شبكة دماغية كوكبية” يجري فيها تبادل الطيف الكامل من الأحاسيس والعاطفة والذكريات والأفكار على المستوى العالمي، وهي التي تحدث عنها ميشيو كاكو في كتابه “مستقبل العقل”، سوف تكلّف الكثير من هدر الطاقات البشرية والطبيعية في ما لا طائل منه على صعيد استقرار الأنا الإنسانيّة في مدارها القطبي الجوهري الذي لطالما ركنت إليه مسالك الحكمة القديمة، في حين أن العلم المعاصر يقف أيضاً موقف حيرة وارتباك إزاء تعامله مع المرض العقليّ الذي يمكن عده طيفاً كاملاً من أمراض تصيب العقل بعدد مريب من الطرق المضللة.
لقد أشار كمال جنبلاط في استشراف ما استشرفه من أخطار التطور العلمي الى ان الانسان لا يستطيع أن يعيش بدون الله، كالقنديل الذي لا يشعل ولا يضيء بدون زيت. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا روح، وأن تأثير الدين ليس عابراً في نفسيّة وذهنيّة الشعوب، كما أنه يستحيل أن يعبّر عن المطلق غير المقيّد بشروط في لغة مفهومية نسبية او شرطية لأن اللامتناهي لا يوصف بلغة المتناهي، ذلك ان هناك نوازع أساسية وجوهرية في الأنا الانسانية يفسّرها الحكيم الكمالي المتأثّر بالحكيم الهندي شري اتمانندا تتعلق بالتوق الى الخلود، وطلب السعادة، وتحقيق الحرية؛ وهي كلها أصبحت مصطلحات مضللة في شعارات العصر على الصعيدين الفردي والاجتماعي، في ما نلاحظه من فوضى التوجّه والسير على غير هدى، وهدم القديم القيميّ.
إن مشكلة الأنا المعاصرة تتجلى في نوازع السيطرة والعنف وجموح الرغبة والإثرة، والتعلق بالزائف المادي البعيد عن ارشاد القلب بالمشاعر السليمة، وهي مشكلة متصلة بتضاؤل دور العائلة وانحسار المدى الريفي من الحياة الطبيعية وممارسة الأعمال الرتيبة المضجرة، وانعدام التوجيه الخلقي والروحي أسَريّاً ومدرسياً وثقافياً وحزبياً، وبخاصة انعدام المثال الحي أمام الشباب بفعل التسطيح الايديولوجي واستهلاك الشعارات والترداد الببغائي لها.
لذا وبهذه المناسبة الجليلة التي نستحضر معها انبلاج نور مجيد من مولد المعلم كمال جنبلاط، فإن الدعوة موجهة بشكل مفتوح الى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الأستاذ تيمور جنبلاط نحو اعتماد رؤية كمالية فكرية في تنمية الكادر الحزبي الشبابي وتفعيل العمل الحزبيّ البنّاء القائم على المعرفة والصدق والإخلاص والتضحية، وهو الزعيم الشاب الذي يتوسّم فيه الكثر من عارفيه ذلك الهدوء الكمالي وتلك الرصانة والخلقيات الرفيعة التي لطالما كان عليها كمال جنبلاط الشاعر المفكر الإنسان، السياسي الذي نقض المكيافيلية في مراسه السياسيّ وسلوكه الحزبيّ ليحوّلهما مسلكاً أخلاقياً ووديعة ضمير نمير .
أما إذا لم يكن ذلك متاحاً بسبب الواقعية السياسية والبراغماتيّة الممنهجة في السلوك الشائع، فليعمل على بناء نخبة مفكّرة متحلية بالفضائل والمعارف، كي يكون لها الفعاليّة المرجوّة في معالجة المسائل الهامة ومقاربة القضايا المصيريّة، وإلا فإن مصائر الاحزاب كافة، بحضور هذه الأنا الهشة قيمياً، تبدو على موازاة مصائر الأقوام الذين فقدوا أخلاقهم فذهبوا كما ذهبت وفُقدوا كما فُقدت.
إن الأنا الهشة المعاصرة هي التي تمثل هذا المشهد الأسود القاتم في الحرب ضد غزة في نوعٍ من الانحطاط الأخلاقيّ والسياسيّ والمعنويّ، الذي ناضل كمال جنبلاط من اجل اتقاء شرّه والحؤول دون حصوله، ولقد بذل نفسه في سبيل فلسطين شهيداً للحق والعدل والحرية، حيث صحّ ما رنا إليه المعلّم من تحقّق الأنا الجوهريّة في العروبة والمثل العليا والحضارة الحقيقيّة فصدق ما قاله العلاّمة العلايلي انهم صرعوا فيه اللحم والدم، وكانا أصغر وجوده، ليظلّ حكاية نسور وعقبان على مرّ الزمان.
*كتبت في 4 كانون الأول 2023، قبيل حلول الذكرى السنوية الـ 106 لميلاد الشهيد الكبير كمال جنبلاط في السادس من كانون الأول.
لإعلاناتكم في منصة حرمون يرجى الاتصال واتس:
0096176920208
وللانضمام:
مجموعة حرمون للتعليم والإعلام والتدريب:
https://chat.whatsapp.com/HQi7bkJTOGGLYmdqUsKYOB
مجموعة منصة حرمون وندوة حرمون الثقافية:
https://chat.whatsapp.com/HFNrMOLD5TKDxmZTTjYZi3
مجموعة حرمون بالتلغرام:
رادي وحرمون:
https://onlineradiobox.com/lb/haramoon/?cs=lb.haramoon&played=1