د. معن الجربا*
منذ بداية القرن الماضي وبعد نجاح مخطط سايكس بيكو، استطاع الغرب السيطرة الكاملة والخانقة على البلاد العربية والإسلامية، ولم يستطع أن ينجو من تلك السيطرة الغربية إلا أقلّ القليل والنذر اليسير من الدول في منطقتنا. وهذه النجاة لم تتحقق إلا بسبب وجود قادة ملهمين تبنّوا مشاريع ايديولوجية دينية أو قومية أو فكرية سواء كانت اقتصادية او اجتماعية. وهذا الأمر لم يكن سهلاً بل احتاج إلى الكثير والكثير من الوقت والإعداد والاستعداد والتضحيات، مثل ما حدث في مصر جمال عبد الناصر وجزائر العروبة وإيران الثورة الإسلامية وعراق وسورية القومية وغيرها من الأمثلة…
هذه التجارب لم تكن سهلة ولم يُكتب لجميعها النجاح المطلوب الذي كانت تنتظره الجماهير. فالغرب المستعمر لن يسمح بسهولة خسارة الأرباح التي حققها بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، إنها كنز ثمين لن يتمّ التفريط به بسهولة أولاً، وثانياً فالغرب أكثر ما يخشاه هو استيقاظ العملاق النائم، العربي خصوصاً والإسلامي عموماً… فكلّ من يحاول الإفلات من سيطرة الغرب عليه أن يكون جاهزاً للصدمات الكبرى والمؤامرات التي لا تنتهي والدسائس الداخلية والخارجية، وهذه النقطة بالذات هي التي ستقودنا الى موضوع السعودية والخروج من عنق الزجاجة.
توحي القيادة الجديدة في السعودية والتي يمثلها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أنها قد اتخذت قراراً مصيرياً باتجاة الاستقلال عن الهيمنة الأميركية الغربية، ومن الواضح حتى الآن أن القيادة الجديدة تريد القول إنها تمضي بشجاعة وصلابة في هذا الاتجاة.. الى الآن نحن لا نعرف إلى أيّ مدى ستستطيع القيادة الجديدة الصمود في هذا الاتجاه والى أيّ مدى هي مستعدة الى التضحيات للخروج من عنق الزجاجة والذي يمثل الانعتاق من هيمنة الدول العظمى.
مما لا شك فيه أنّ على القيادة الجديدة في السعودية إذا كانت جادة في إكمال المسير بهذا الاتجاه، ان تكون جاهزة لكلّ أنواع المؤامرات والدسائس خارجياً وداخلياً، فالغرب لن يستسلم بسهولة.
هذه المؤامرات المتوقعة لا بدّ أن تواجه بأيديولوجية حاسمة، سواء على المستوى الوطني أو القومي العربي او الإسلامي او العالمي. فمواجهة المؤامرات لن تكون إلا بتماسك الجبهة الوطنية الداخلية وتلاحم العلاقات القومية العربية في الجوار وشرعية المظلة الإسلامية وقوة العلاقات في المجتمع الدولي.
الجبهة الداخلية تحتاج إلى خطوات تدريجية، ولكن جدية باتجاة الديمقراطية وحقوق الإنسان ورفاهية المواطن، والجبهة العربية القومية تحتاج إلى إعادة ترتيب للعلاقات باتجاه المصير المشترك، والجبهة الإسلامية بحاجة الى توثيق الروابط مع الدول الإسلامية الفاعلة، كلّ هذا من خلال نظرية توحيد الهدف والمصير بمشاريع اقتصادية وثقافية وعسكرية مشتركة. أما المجتمع الدولي فلا بدّ من كسر الطوق والانطلاق نحو القوى والمحاور الجديدة الصاعدة في العالم بقوة وهو ما تقوم به فعلاً القيادة الجديدة في السعودية.
أعتقد أنّ أيّ دولة لا تستند في قوتها الى دوائر الانتماء الأربع، لن يُكتب لها الاستمرار بالصدارة أو التفوّق.
فمن خلال قراءة تجارب الأمم في التاريخ، وجدت انّ نظرية الانتماء الإسلامية هي أكثر هذه النظريات رسوخاً وثباتاً في الجذور وأكثرها دوماً في إنتاج القوة.
فنظرية الانتماء في الإسلام تقوم على أساس أربع دوائر رئيسية كبرى يكمل بعضها بعضاً دون أيّ تعارض أو تضاد، فإحدى تلك الدوائر هي دائرة «الوطنية» أيّ الوطن الذي ينشأ فيه الإنسان فتتكوّن به ملامح شخصيته حيث إنّ الوطنية شعور فطري يتكوّن من عاطفة وولاء وانتماء سببه الولادة أو العيش في بقعة جغرافية محدّدة تتسم بثقافة معينة تشكل في نهاية المطاف هوية يتميّز بها الإنسان عن غيره. وسنجد أنّ هذا الشعور من العاطفة والولاء والانتماء كان واضحاً وجلياً عندما خاطب النبي عليه الصلاة والسلام مكة المكرمة وهو مهاجر إلى المدينة المنوّرة قائلاً لها «والله إنك لأحبّ البقاع إليّ ولولا أنّ قومك أخرجوني ما خرجت». فالرسول الكريم قد ارتبط عاطفياً بالمكان الذي ولد ونشأ فيه فأصبح وطنه الذي ينتمي إليه.
ثم تأتي «دائرة القومية» حيث إنّ القومية جزء لا يتجزأ من التكوين الطبيعي في المحيط الجغرافي، فقد كان الرسول عليه السلام دائماً ينادي من حوله من الناس بعبارة (يا أخ العرب). وهنا سنلاحظ بأنّ النبي قد اعتبر القومية والعروبة سبباً في الأخوّة مع الآخرين. لذلك فكلّ شعب من شعوب الأرض له الحق بقومية تميّزه عن غيره من الشعوب الإنسانية الأخرى من خلال لغته وثقافته وعاداته وتقاليده، ولكن بشرط أن تكمل كلّ قومية من تلك القوميات بعضها بعضاً في لوحة جميلة في نهاية المطاف، وذلك مصداقاً لقوله تعالى «وجعلناكم وشعوبا وقبائل لتعارفوا»، أيّ قوميات تقوم على أساس التكامل والتعاون والتلاحم لا على أساس التنافر والتناحر والعنصرية.
ثم «دائرة الدين» فقد قال الله تعالى «إنما المؤمنون إخوة»، وهذه الدائرة من أهمّ الدوائر في حياة الإنسان حتى يستطيع الوصول إلى مرحلة الاستقرار النفسي والعقلي في هذه الحياة، ودائرة الانتماء الديني لا تتعارض بأيّ حال من الأحوال مع الدوائر الأخرى من دوائر الانتماء بل يكمل بعضها بعضاً كما قلنا سلفا.
أخيراً الدائرة الأعمّ والأشمل في نظرية الانتماء الإسلامية ألا وهي «دائرة الإنسانية». فالإسلام يعتبر الإنسانية هي الرابط الأشمل والأعمّ لبني البشر حيث قال الله تعالى «هو الذي خلقكم من نفس واحدة»، وقال «ولقد كرّمنا بني آدم»، وقد أكد سبحانه وتعالى بأنّ الأخوة الإنسانية موجودة بين البشر حتى وإنْ اختلفت الأديان والمعتقدات، ويتضح ذلك بجلاء في قوله تعالى «وإلى عاد أخاهم هود»، وسنلاحظ في هذه الآية الكريمة أنّ الله تعالى قد اعتبر نبيّه هودا عليه السلام «أخاً» لقومه على الرغم من أنه مؤمن موحّد وهم كفار مشركون.
وبعملية إسقاط لنظرية الانتماء الإسلامية هذه على وضعنا المعاصر سنجد أنّ الخلل في تطبيق هذا التكامل بين دوائر الانتماء هو الذي أنتج لنا هذا الواقع المرير، حيث أنّ تعطيل التكامل بين الدائرة الوطنية والدائرة القومية هو الذي أنتج لنا دولاً متفرّقة وضعيفة وممزقة يطمع بها أعداؤها من القوميات الأخرى، كما أنّ تعطيل التكامل بين الدائرة القومية والدائرة الدينية هو الذي أنتج لنا مشروعاً قومياً عنصرياً هزيلاً انهار مع أول صدمة وأول امتحان. كذلك فإنّ تعطيل التكامل بين الدائرة الدينية والدائرة الإنسانية هو الذي أنتج لنا مشروعاً دينياً مشوّهاً ينظر له الآخرون بعين الريبة والخوف لأننا جرّدناه من روحه الإنسانية المتأصّلة في جذوره وفي مبادئه.
المرحلة المقبلة خطيرة وحساسة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، ولا مجال للأخطاء فيها، فالعالم يتغيّر بسرعة البرق، والظروف الدولية لم يعد التنبّؤ بها سهلاً، والاستعداد والحذر هو سيد الموقف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث سياسي.