من أشقّ المهام سبر 22 سنة في أسرة السفير، بإدارة الراحل الكبير عميد الصحافة العربية اللبنانية طلال سلمان، بمقدّمة ملف تخطّى 6 آلاف كلمة، وهو جزء يسير مما قيل، ومما سيقال، في القامة التي انسلّ من بين أصابعها اليراع منذ أسبوعين، مؤبناً عميد الصحافيين الرياضيين العرب الزميل الراحل يوسف برجاوي، مستسلماً لمشيئة الحياة بقانونها الموت.
وتبرعم إعجاب وحبّ للرجل في نفسي، منذ أواخر السبعينيات، حين كانت السفير تغطي نشاطاتنا المدرسية، فأحببت أن يكون إضرابنا للمطالبة بأستاذ للأدب الفرنسي ولمادة الفيزياء قد استحق خبراً تنشره جريدة “السفير”، عبر مراسلها العريق الصديق الراحل شوقي الحاج، وكنا حينها في صف البكالوريا. محطة ثانية، كانت ربما الجريدة الوحيدة التي تنشر أخبار العمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال اليهودي الإسرائيلي في منطقة البقاع الغربي وراشيا. والمحطة الثالثة، عندما صعقتنا صورة في الصفحة الأولى للراحل ملفواً بالقطن في المستشفى إثر محاولة اغتياله العام 1984. والمحطة الرابعة بعد أن أسست وزملاء جامعيين رابطة طالبية نشطت لسنوات باسم اتحاد الطلبة الجامعيين، فذاع صيتها، واختارها الأستاذ طلال سلمان في ربيع العام 1987 لاستطلاع آرائها بثلاثة أسئلة في ملف شمل كبار الساسة والمفكرين وقادة الرأي في لبنان، فرددتُ بجواب من 1500 كلمة، وانا بعمر 25 سنة، لفتت نظره، فأرسل كتاب تنويه بعد أسبوعين. هكذا أصبحت جريدة السفير كتابنا ومصدر خبرنا، ورسالتنا للناس وموضع حبنا.
ولما أقفلت الدروب بوجهي، طيلة سنوات بلا عمل، قررت مغادرة القرية إلى المدينة، لإنجاز الدراسات العليا والدكتوراه، فكان لا بدّ من عمل مستمر للدعم والإنتاج، في التعليم ومورد إضافي من التدقيق اللغوي. وصادفت إعلاناً لجريدة الديار بحاجتها لمدققين، فقصدتها وعملت شهرين، دون أن أتقاضى من إدارتها ليرة واحدة، في تشرين الثاني وكانون الأول 1994، فانتقلت بضعة أشهر إلى جريدة الشرق، لتصرفني بقرار تعسفيّ وتحسم علي شهر نيسان 1995، فتذكرت مكانة “السفير” في قلبي، وهي في نزلة السارولا القريبة من شارع فردان، فقصدتها وخضعت لامتحان قبول، علّق الأستاذ خليل شرارة عن النتيجة جواباً لسؤال مدير التحرير الطيب الذكر المرحوم محمد مشموشي “أنها تحفة” في 14 حزيران 1995. لتبدأ مسيرتي مع جريدة السفير حتى 31 كانون الأول 2016، بحلاوتها ومرارتها.
22 سنة عمل بإدارة عليا للأستاذ طلال سلمان، نسيج من الصرامة والقسوة والحزم والجد، والانضباط بالتسلسل الإداري حتى عناصر الحرس. فعليك الحضور في دوامك تحت كل ظرف. الغياب والتقصيرخط أحمر. وليس سهلاً أن تبرر تقصيراً او غياباً أو خطأ، حتى أصبح الخطأ، بأي نوع من انواعه، خطأ الجهل، أو التقصير، او السهو أو الغفلة، كابوساً يلازمنا في نومنا ويقظتنا. وأدق ما يمكن تدقيقه هو الإعلانات والوفيات لارتباطها بمواعيد ومصالح وقيم مالية مدفوعة، وما توازيها أهمية هي المانشيت ومقدمة الأستاذ طلال “على الطريق”. ورغم وضوح خطه وجمال حرفه ومتعة معانيه، لكنه أحياناً يشبه خريطة طرق متعرّجة الأسطر والمعاني والزيادات في زوايا الصفحة وحواشيها حتى تصبح حقل ألغام قابلة للانفجار بنا بلا هوادة.
والحق يقال، بذل الأستاذ طلال كل جهد لينصف أعمدة السفير على تقلّب السنوات والظروف، رغم الشكوى من جمود الرواتب الهزيلة أصلاً طيلة عقدين من السنوات، لكن دمعاته في الاجتماع الأخير في مطلع كانون الأول 2016، للهيئة العمومية، بعد مقال احد الكتاب “ليس هكذا تورد الإبل يا جبران”، حين قال: “إنه لا مفرّ من الإقفال، حتى أستطيع دفع تعويضاتكم. وإن بقينا نصدر شهرين بعد رأس السنة تبقون بلا تعويضات”. خياران كلاهما مران. وأقفلت السفير، وخلال نصف شهر كان الأستاذ شرارة على الخط يخبرني أن تعويضي جاهز.
طيلة 22 عاماً، التقيت الراحل الكبير مرّة واحدة معايداً من ضمن وفد الزملاء بعيد السفير. لم يكن من سبب للعلاقات غير علاقة العمل. هذه البيئة التي بناها الأستاذ طلال سترت مئات الأسر، ووظفت الكفاءة المناسبة في الوظفية المناسبة، وحيث يكون من شكوى كانت تأخذ حقها من البحث والدرس والنظر لاتخاذ قرار فيها بروية وحكمة وحزم.
فالناشر الفارع الطول قامة باسقة، حيناً يكون إعصاراً وحيناً آخر نسمة ينزف أرقّ الشجو والغزل ببيروت وفلسطين ووو.
في يوم غيابك، أستاذنا الكبير، طلال سلمان، 25 آب 2023، غيابك المؤجل 6 سنوات، بعد غياب السفير، نتقدّم من أسرتيك، زوجتك وأبنائك وبناتك وأشقائك وآل سلمان وأهالي شمسطار، باحرّ التعازي راجين لنفسك الراحل الكبير الرحمة، ومن أسرة السفير كافة، التي حافظ كثيرون منهم على الودّ والذكرى، بينما كثيرون غابوا نهائياً في دفاتر الماضي، راجين لهم العافية والعمر الطويل.
وجمعنا في منصة حرمون ما صدر اليوم الجمعة، من تعازٍ بغيابك، تحية لروحك وبعض وفاء لعطائك ولأسرتك. رحمك الله، والمجد للعطاء النبيل.