لم يكن انتصار المقاومة في لبنان وتالياً محور المقاومة الإقليمي، الذي تحقق في العام 2006 في مواجهة مباشرة مع جيش “إسرائيل” الذي وصف بأنه لا يُقهر، انتصاراً عادياً أو حتى انتصاراً تفسّره موازين القوى بين الطرفين المتواجهين، أقله في ما أعلنه العدو أو حدّده من حجم القوى المشتبكة أو المساندة والداعمة والمؤازرة.
فلجنة فينوغراد التي شكلتها حكومة العدو للتحرّي عن “أسباب الإخفاق الإسرائيلي في الحرب” ذكرت في تقريرها أنّ “بضعة آلاف من المقاتلين” (يعني لا يتجاوزون الخمسة آلاف) تصدّوا للجيش الإسرائيلي الذي زجّ كلّ صنوف أسلحته البرية والجوية والبحرية “وبحجم ضاقت ساحات القتال عن استيعابها ومنعوه من تحقيق أغراض عمليته العسكرية التي تدحرجت وتحوّلت في المصطلح الإسرائيلي الى “حرب لبنان الثانية” (باعتبار انّ عدوان 1982 هو حرب لبنان الاولى، أما الباقي من حلقات مسلسل العدوان المتكرر على لبنان فإنه لا يعدو كونه “عمليات عسكرية” محدودة في الزمان والمكان والمهمة).
لقد صنع انتصار المقاومة خارج معادلات التقدير العسكري التكتي الميداني أو الاستراتيجي العريض ما جعل المقاومة نفسها تصف نصرها بأنه “نصر إلهي” يتعدّى في تفسيره معادلات الحرب التي يعتمدها البشر، ومع ذلك يبقى من المفيد البحث في الأسباب التي يمكن الاتكاء عليها لتقديم تفسير معقول لهذا النصر الذي غيّر واقع الصراع في منطقة الشرق الأوسط خاصة، وفرض إيقاعه على العلاقات الدولية ومسار الأحداث فيها بشكل عام؛ وهي نتائج لا بدّ من التوقف عندها بالقدر المتاح كما سنبيّن أدناه بعد ان نتوقف عند الأسباب القابلة لربط الانتصار بها حيث نسجل عناوين رئيسية منها يمكن ذكر بعضها كالتالي:
1 ـ المقاوم الفرد، والتشكيل المقاوم، حيث نجد في معرض البحث هنا مقاوماً محترفاً عالي الشحن المعنوي والعقائدي يعمل بروح ونفس رسالي رفيع المستوى يمتلك مؤهّلات بدنية أحسنَ صقلها ويعمل بخبرات عسكرية اكتسبها أو صقلها، جعلت منه فرداً/ جماعة وجعلت من الجماعة جيشاً رغم محدودية العدد وتواضع التسليح أحياناً.
2 ـ منظومة القيادة والسيطرة، وبرزت أهمية هذه المنظومة ليس في تأثيرها في ساحات القتال وإمساكها بزمام الأمور على مستوى المقاتلين في الميدان، بل تعدّت ذلك لتشكل رافعة معنوية هائلة تؤثر في الميدان وخارجه وتتقن الحرب النفسية في أعلى وأبهى صورها، وتمارس الإعلام المقاوم الذي تتقدم أهميته كثيراً في حرب غير متكافئة وغير متماثلة.
3 ـ البيئة الحاضنة للمقاومة. لو لم تكن بيئة المقاومة من الطبيعة التي ظهرت عليها، لكان ممكناً ان تشكل عامل ضغط وتقييد للمقاومة تغلّ يديها او تثبط عزيمتها عن القتال او تحدّ من حركتها ومناورتها فتمكن العدو منها. لقد اعتمد العدو استراتيجية إجرامية تقوم على قاعدة الأرض المحروقة وأسماها “نظرية الضاحية”، وقصد من الضغط على بيئة المقاومة وأهالي وعائلات المقاومين لمنعهم من القتال، فكان الردّ من هؤلاء صاعقاً عبر تقبّل تقديم أشدّ التضحيات وأقساها “فداء للمقاومة”، وتحوّلت بيئة المقاومة من موقع كان يريد العدو وضعها فيه لتضغط على المقاومين الى وضع ثبتت هي فيه وجعلها رافعة معنوية وأحياناً لوجستية للمقاومين.
4 ـ مواقع وأجهزة ومؤسّسات في الدولة اللبنانية عملت بحسّها الوطني وموجباتها الأساسية، وهنا ينوّه بموقع رئاسة الجمهورية والجيش اللبناني. حيث كان الأداء على صعيدهما وطنياً عالي المستوى عطل الكثير من المناورات التي استهدفت المقاومة بوجوه شتى.
5 ـ العمق الاستراتيجي للمقاومة والمتمثل بشكل خاص بكلّ من سورية وإيران اللتين قدّمتا أقصى ما يمكن تقديمه للمقاومة من دعم مادي ومعنوي سياسي وعسكري ميداني واستراتيجي، بحيث انّ المقاومة شعرت بأنها ليست جزيرة معزولة محاصرة يُعدّ لإسقاطها، بل إنها رأس حربة في صراع يخوضه محور إقليمي ضارب في عمق المنطقة ولديه من القدرات وشجاعة القرار لاستعمال تلك القدرات في مواجهة “إسرائيل”، ما يحقق الأهداف المرجوة.
هذا التضافر في الجهود والحشد في الطاقات فتح الطريق أمام لبنان لصنع نصر غيّر مسارات العمل في المنطقة وأرسى معادلات وقواعد تعدّت في مفاعيلها حدود لبنان والشرق الأوسط. وهنا يمكن ذكر أهم هذه المفاعيل كالتالي:
أ ـ تعثر العمل بنظرية “الفوضى الخلاقة” الأميركية التي ترمي الى إقامة شرق أوسط جديد يكون على شكل منطقة استعمار وهيمنة ونفوذ أميركي ويشكل قاعدة تحكم أميركا فيها السيطرة على منابع النفط والممرات الاستراتيجية وتنطلق منها لإقامة النظام العالمي الأحادي القطبية.
ب ـ تعثر العمل الأميركي باستراتيجية القوة الصلبة التي اعتمدتها أميركا منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وترجمتها بحروب الخليج والعراق وأفغانستان، لكنها فشلت في جنوب لبنان ما دفع أميركا الى التحوّل الى استراتيجية الحرب بالوكالة أو العمل باستراتيجية القوة الناعمة والإرهاب.
ج ـ فقدان “إسرائيل” الحرية في اتخاذ قرار الحرب المضمونة النتائج، وافتضاح عجزها في الميدان وانكشاف الثغرات في بنيتها العسكرية والقتالية ما أجبرها على القبول بمعادلة الردع الاستراتيجي المتبادل في مواجهة المقاومة وجعل القرار الإسرائيلي للذهاب للحرب خاضعاً لشروط ليس من السهل على “إسرائيل” توفيرها.
د ـ تهشم العقيدة القتالية الإسرائيلية وسقوط أعمدة هامة من أركانها (الطيران الحاسم، الحرب الخاطفة، الحرب على أرض الخصم)، حيث فشل الطيران في حسم الحرب، ولم تستطع أن توقف الحرب بتوقيتها، كما أنها فشلت في جعل الحرب حصراً على ارض الخصم وإبقاء داخلها بعيداً عن النار.
هـ ـ تقديم نموذج حسّي وعملي وميداني على إمكانية هزيمة “إسرائيل” وحرمانها من وضعية “القوة القادرة التي لا تقهر” وتحوّلها إلى وضع القوة العاجزة عن تحقيق أهداف الكيان، ما أدخل هذا الكيان في دائرة الخطر الوجودي لأنّ إسرائيل المفتقدة لشرعية الحق في الوجود تستند الي القوة في تحقيق وحماية هذا الوجود، فإذا عطلت هذه القوة أدخلت “إسرائيل” في دائرة الخطر الوجودي، كما هو حالها الآن بعد حرب 2006، حال يتفاقم في سلبياته مع تعاظم قدرات المقاومة…