إذا كانت الكارثة الأكبر التي أصابت القلب من بلادنا هي الأكبر في الربع الأول من القرن الحالي هي الحرب المتواصلة على سورية، فإنّ الخديعة السياسية الأكبر هي تلك التي انطلت علينا أو على بعض منا وكان صاحبها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
اعتمد أردوغان على الظهور في بداياته بمظهر العقائدي الإسلامي التقي والوسطي المعتدل القادر على عصرنة الفكر السياسي الإسلامي وجعله منسجماً مع قيَم الحداثة والعصر في الجانب السياسي باعتباره ملتزماً بتصفير المشاكل مع جواره ومجاله الإقليمي، ولكنه مع انطلاق الربيع الزائف ما لبث أن انقلب على منظوريه العقائدي والسياسي على حدّ سواء ليدعم التطرف والتوحش وجماعات إرهابية تلبس لبوس الدين، ولتصبح سياساته عدوانية توسعية مع مجاله الحيوي، ولم يعد ذلك الوسطي الذي يسعى لبناء جسور التواصل من أجل تكتل مشرقيّ وإنما ليناجز إيران الشيعية باعتباره زعيماً لأهل السنة والجماعة ولينافس السعودية باعتباره زعيماً للإسلام ووارثاً للخلافه العثمانية.
كان أردوغان الداعم الرئيس لجماعات التطرّف العاملة في سورية والعراق ومن موقع الجوار المباشر، من جماعة النصرة وأضرابها الى مَن هم أكثر اعتدالاً كجماعة الإخوان المسلمين، ودعمهم في سعيهم لإسقاط الدولة السورية، لا النظام الحاكم فحسب، وأمدّهم بالسلاح والمعلومات والدعم اللوجستي، وكذلك في مصر، وكان أول من رفع أصابعه الأربعة مذكراً بميدان رابعة، كما في تونس وليبيا.
ثلاثه عشر عاماً من التدليس والكذب واستخدام الدين كأداة قتل، وهو ما انطلى على كثير من الإسلاميين الذين رأوا فيه سلطاناً عثمانياً وحامياً لحمى الإسلام لا بل وخليفة للمسلمين.
في الأسبوع الماضي قام أردوغان باستدارة مهمة عند قيامه بجولة خليجية شملت خصميه السابقين السعودية والإمارات وحليفه القطري، كما انفتح على مصر عبد الفتاح السيسي الذي سبق أن كال له من التهم والشتائم ما يخرجة من ملة الإسلام، مع ذلك نراه يبادله الغزل ويحلّ ضيفاً عزيزاً على ولي العهد السعودي في جدة ويوقع معه مروحة واسعة من الاتفاقيات السياسية والأمنية والاقتصادية التي شملت الدخول في شراكة في 850 مشروعاً لبعضها علاقة بالصناعات العسكرية، ويعود من الإمارات وفي جيبه أكثر من 50 مليار دولار قادرة على رفد الاقتصاد ودعم الليرة التركية المتهاوية، وفي ألف باء السياسة أنّ ذلك لا يمكن اعتباره تبذيراً مالياً محضاً من السعودية والإمارات وإنما استثمار وله استخداماته السياسية وتحديداً في تخلي أردوغان عن خصوم البلدين وأولهم جماعات الإسلام السياسي.
المال عند أردوغان أهمّ من العقيدة والإيمان وجنة الدنيا أولى من جنة الآخرة وأسرع، وإذا كنا نوافق على أنّ السياسة مصالح إلا أنّ حداً أدنى من الالتزام الأخلاقي يبقى حاضراً وإلا تحوّل العالم الى غابة يؤكل فيها من خانه الحظ. فأردوغان سبق ان استقبل ملايين السوريين وألوفاً او عشرات ألوف الإسلاميين الهاربين من سجون مصر السيسي وتونس وليبيا وغيرها… ومنحهم هوامش واسعة للحركة وإدارة المعارضات في بلادهم وعقد المؤتمرات وإجراء الاتصالات وإطلاق الفضائيات والصحف ودور النشر، وبعضهم قد قضى ما يزيد عن عقد ونصف العقد في تركيا حيث ولد أبناؤهم ودرسوا في مدارسهم وفي لغتهم، ومنهم مَن استثمر بالجهد والمدّخرات.
بعد عودته من غزوته (زيارته) الخليجية انتهى الربيع الأردوغاني بالنسبة لهؤلاء وبدأت رابعة معكوسة في غير صالحهم وبقيت أمامهم فرصة قصيرة للبحث عن ملاذات جديدة. وبالطبع فالإمارة الصغيره قطر لن تكون مرشحة فتخصّصها يقتصر على القيادات فقط، وقد لا يجد هؤلاء مَن يستقبلهم إلا إيران الشيعية التي يشتمها بعضهم في مجالسهم الخاصة، او روسيا التي يراها بعض مفكريهم أشدّ خطراً وعداء على أمتنا من الولايات المتحدة وقد يذهب بعض غلاتهم لاعتبارها أشدّ خطراً من دولة الاحتلال.
ألم يكن باستطاعة ولي العهد السعودي ورئيس الإمارات أن يطالبا صديقهم الجديد بتخفيف الضغط على العراق الذي يهدّد أردوغان بتجفيف رافديه دجلة والفرات؟ ألم يكن من الأوْلى أن يطالباه بالانسحاب من الشمال السوري كجزء من الثمن الذي دفعاه؟ أم انّ ما يعشش في تلك العقول لا يرى في الأمن القومي ما يشغله؟