منذ أسبوعين أو أكثر قرأنا أنَّ دار الإفتاء في لبنان أعلنت، بمناسبة عاشوراء، عن إقامة محاضرة عن الإمام الحُسَيْن (عليه السلام) وعن مدرسته وثورته، في مسجد محمد الأمين وسط بيروت. وفور قراءة هذا الخبر اعتمَرَتْ قلوب كل المسلمين فرحة لا تُوصَف لأن الحُسَيْن لا يجب أن يكون حِكراً على فئة واحدة من المسلمين أو المسيحيين بل هو مُلك البشرية جمعاء وذِكرى ثورته وتضحياته العظمى المشهودة عالمياً يجب أن تُحيا في كل عام في شهر محرَّم بما تستحق من تدبر وتعلُّم من دروسها وتضافر الجهود بين أخوة الدين والإنسانية.
لكن سرعان ما تبدَّدَتْ فرحتنا هذه عندما قرأنا قبل أيام من العاشر من مُحرَّم، عن الإعلان عن تأجيل (عملياً إلغاء) هذه المحاضرة ولم نعرِف السبب حتى الآن! فقد كنا نأمل أن يكون الحُسَيْن مدخلاً للوحدة الوطنية والإسلامية في بلد فتَّتَتْه النزاعات والخصومات والنكايات والانهيارات، وكنا نتأمل أن يشكل الحُسَيْن مدخلاً ليس للوحدة الإسلامية فحسب، بل حتى لوحدة الديانات السماوية كلها ولحوار الحضارات الذي أسَّسَه سماحة الإمام القائد المُتنوِّر السيد موسى الصدر، رد الله غربته ورفيقيه. وهنا اسمحوا لي أن أَرْفَعَ التحيَّة والتعظيم لأحبائنا من أخواتنا وأخواننا المسيحيين على مشاركتهم للمسلمين في العزاء والمضافة الحسينية وإحياء شعائر عاشوراء الحُسَيْن، وهم بهذا شكَّلوا أبهى وحدة وطنية ودينية مستمدِّين هذا الدَّعم والحب والتوقير والتسامح والمُساندة (ما عدا قلة قليلة مسيَّسَة لا تزال تحمل أوزار ضغائنها معها) من تضحيات الفادي المسيح عليه السلام، كما سمَّاه الإمام الصدر وهو أول رجل دين مُسلِم يستخدم هذا الوصف، لأن المسيح يشترك مع كل قيم الأمام الحُسَيْن السَمِحَة وبالعطاء والسمو والبسالة والتضحية والشموخ.
بالعودة لقرار تأجيل محاضرة الإمام الحُسَيْن عسى أن يكون المانعُ خيراً فقد كانت المجالس الحُسينية تُقام في الكلية العاملية بحضور الإمام الصدر ويحضرها كافة المسلمين والمسيحيين من قادة ومسؤولين وأناس عاديين، فنبتهِل إلى الله أنْ تعود هذه الأيام الحسينية وأنْ تتغلَّب المصلحة الإسلامية العليا على أي تفرقة وشرذمة وأن لا يكون الإمام الحُسَيْن وخروجه للإصلاح موضع جدل أو شك لدى أحد من المسلمين كما يصوِّر بعض المتطرفين، بل بالعكس فإنَّه يمثِّل الحق المُطلَق وثورته ألهمت معظم المصلحين في العالم من كل المِلَل والنحل.
فالأحرى بمن هم أقرب أن يستفيدوا من نِعمة الحُسَيْن التي أسبغها الله علينا، وعِبَر الحُسَيْن. لكننا للأسف نجد في المُقابِل بعد الفِرق القروسطية لا تُحيي ذِكرى عاشوراء فحسب بل تحتفل في العاشر من مُحرَّم بما يسمَّى “عيد عاشوراء” وكأنه عيد الأضحى فيتبادل المُحتَفون الهدايا والتهاني والبعض يصوم تحت شعار الاحتفال بنجاة النبي موسى عليه السلام من فرعون. وهناك بحث خاص طويل من أحد مشايخ السُنَّة الأفاضِل يُفنِّد فيه مسألة صيام اليهود لنجاة موسى وعدم وجودها بتاتاً وعدم مصداقية “عيد عاشوراء”.
والمفارقة هنا أن من يعتبر بأن إحياء عيد المولد النبوي الشريف هو كُفر، يحتفل ويشارك بحماسة في “عيد عاشوراء”!
وأخيراً بغض النظر عن تعدُّد الفقه والعقائد فإنَّ قضية مَنْزِلة وشأن الإمام الحُسَيْن وقُربِه من جده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله (حسينٌ مني وأنا من حُسين) محسومة، وبكاء النبي على سبطه متواترة ومتواجدة ومسنودة في كتب ومراجع السُنَّة والشيعة، وأحقية خروجه وثورته للإصلاح وأنها ليست مفسدة وفيها مصلحة دينية، مثبَّتَة وأن وجوب نصرته موثَّقة في معظم كتب العامَّة فلماذا نخذل الإمام الحُسَيْن مرتين ولا نجعله مخرجاً مشتركاً وجامِعاً للوحدة الإسلامية مهما تنوَّعَتْ المذاهب والمدارس؟!
وإذا كانت هناك ذرَّة من شك عند بعض إخواننا من أهل السُنَّة والجماعة بما ذكرنا نحيلهم إلى كتب أقطاب العامَّة الذين يُعْتَدُّ بهم. فقد قال إبن العماد الحنبلي في “شذرات الذهب” بالجزء الأول صفحة ٦٨ “والعلماء مُجْمِعون على تصويب قِتال علي لمخالفيه لأنَّه الإمام الحق ونُقِل الاتِّفاق أيضاً على تحسين خروج الحسين”.
بل إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي أمر بالخروج لنُصرة الحُسَيْن عليه السلام. فقد روى إبن كثير في “البداية والنهاية” بالجزء الثامن صفحة ٢١٧، “حدّثَنا أشعث بن سحيم عن أبيه قال سمِعْتْ أَنَسْ بن الحارث يقول سمِعْتُ رسول الله (ص) يقول إنَّ إبني يُقتَل بأرضٍ يُقال لها كربلاء فمن شَهِد منكم ذلك فلْيَنصره. قال خرج أنَسْ بن الحارث إلى كربلاء وكان من بين الذين نصروا الحُسَيْن واستشهدوا بين يديه لأنه سمع بوصية الرسول وعمِل بها. حتى إبن حجر يصرِّح في “الإصابة في معرفة الصحابة”، جزء واحد صفحة ٦٨ في ترجمة أَنَسْ بن الحارث، بقبوله للرواية أعلاه ويقول وقد ذكره في الصحابة النغوي وابن السكا وابن شاهين والدعولي وأبو نعيم وغيرهم”.
وبغض النظر عن المسائل الفقهية فإننا لا نشك البتَّة إن أمر الرسول صلى الله عليه وآله يحب أن يُطاع مهما كان لأنه معصومٌ ومُنزَّهٌ عن الخطأ وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وقد أصدر لنا فعل أمرٍ واضح ووصية منه علينا اتباعها وهو لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلا وحيٌ يوحى. فحريٌ بنا أن نلتزم بما أوصانا به الرسول وأقل الواجب لدينا أن ننصر الحُسَيْن بإحياء ذكرى ثورته الخالدة. وكذلك أنْ نتقَّيد ونحذو حذو ونقلِّد رسولنا الأعظم بالبكاء على الحُسَيْن كما فعل هو عندما علِم بذلك والأدلَّة من كتب السُنَّة لا تُعد ولا تحصى وهذا ردُ على من يسأل دوماً ِلمَ البكاء على شخص استُشهِد قبل ١٤٠٠ عام، فالحسين الذي أبكى رسول الله، لم ولن يكون شخصاً عادياً وستبقى دماؤه نبراساً للأمَّة ومصدر هدايةٍ وإلهامٍ في المستقبل للأجيال البشرية جمعاء.