– قد تكون واحدة من المرات النادرة ذات المعنى الذي يستحق قراءة متمعنة للأبعاد الرمزية في ما يمثله في تاريخ ومستقبل الكيان، حيث تقود الأغلبية البرلمانية الكيان نحو أخطر انقسام داخلي ممتدّ على مساحة الاستيطان والنقابات والجيش والنخب المثقفة والسياسية، لإحداث تغيير لا ينطلق من رؤيتها للمصلحة العليا للكيان، بل انطلاقاً من مصلحتها المباشرة كأفراد وأحزاب ومجموعات، وتخاطر لأجل إقرارها والمضي بها قدماً بما يتعارف قادة الكيان على تسميته بالمصلحة العليا للكيان. فهذا ليس قرار حرب متهوّرة وغير مدروسة على جماعة مقاومة أو دولة تهدد الأمن، بخلفية القناعة أن هذه المصلحة العليا للكيان، ولا هو قرار إحداث تحول اقتصادي من وجهة الى وجهة أخرى بخلفية الاعتقاد أن هذا يمكن أن يجلب المزيد من القوة والنجاح للكيان. والقرار واضح هو تشريع لإلغاء دور القضاء في مراجعة القرارات الحكومية، سواء في التعيينات أو وجهة الإنفاق أو مصير الملاحقات بحق الوزراء، لجهة مدى مطابقتها للقانون، أي ما يتيح السيطرة المطلقة لهذه الجماعة الحاكمة للتسلّط على مؤسسات الكيان وتحويلها الى محسوبيات تابعة، وإطلاق أيدي المجموعة الحاكمة للتسلط بأموال الكيان، والتصرف بها دون رقيب، مع العلم المسبق بأن الإصرار على السير بهذا التغيير يعرّض الكيان لانقسام أكيد بائن ووجودي، وإضعاف تماسك الجيش وقدرته العسكرية، ومخاطرة بهجرة الرساميل والشركات، وصولاً لخطر إطلاق موجة هجرة معاكسة بدأت بوادرها مع استطلاع أجرته صحيفة معاريف قالت نتائجه إن 53% من الشباب يبحثون عن فرصة للهجرة من الكيان. والخلاصة هنا قبل اي تحليل آخر، هي أن الكيان يدخل مرحلة جديدة عنوانها تراجع مكانة المصلحة العليا للكيان لصالح المصالح الفردية والفئوية للحاكمين. وهذا هو الإعلان الرسمي عن التحول الى كيان من العالم الثالث، وهو بالنسبة لكيان لا يملك جذور البقاء ويعيش كما يقول قادته في بيئة معادية ترفض الاعتراف بشرعية وجوده، إعلان بدء الانحلال، وبعد فقدان قدرة الاحتلال، وفقدان قدرة الردع، يأتي اليوم فقدان مفهوم المصلحة العليا.
– على الضفة المقابلة تظهر المعارضة، صورة في المرآة عن الجماعة الحاكمة، حيث إن معارضتها لا تنطلق من مفهوم المصلحة العليا للكيان، رغم أن ظاهر الأمور قد يقول العكس، فهذه المعارضة تغامر بمستقبل الكيان أيضاً وقوته وتماسكه لكسر إرادة خصومها وحرمانهم من تحقيق مكتسبات، وهي مستعدّة لأخذ الجيش والاقتصاد الى الهاوية، لتقول لخصومها إن لا مشكلة لديها بترك الهيكل يسقط فوق رؤوس الجميع ما لم تؤخذ معارضتها في الحساب. وهذا يعني أن مواجهة محتدمة قد انطلقت، ليس فيها خطوط حمراء، ولا حسابات للمخاطر، وما شهدناه من لغة تخاطب تتضمن اتهامات بالكذب والتخريب ليس إلا البداية. والمشهد المرشح لمزيد من التعاظم، هو مزيد من الإضرابات ومن التظاهرات وإقفال المؤسسات، والانسحاب من الخدمة العسكرية، والمواجهات في الشارع، والحملات الإعلامية التي لا تحدّها ضوابط، دون أن يعني ذلك لحظة أن أحد الفريقين أقلّ صهيونية من الآخر، أو أقل التزاماً بالعدوانية والسلوك الإجرامي من الآخر.
– يحدث ذلك في ظل وبفعل التراجع العام في حال الكيان، حيث تعتقد الفئة الحاكمة أن الالتزام بالقانون ومؤيديه بات عبئاً عليها، لأن الدولة القائمة على الجيش والقضاء والكنيست قد فشلت برأيها، والبديل هو العودة إلى العصابة والكنيس، لكن هذا يزيد التراجع ويعمق الاهتراء والتآكل، ويعزز فرص الفوضى، والحروب المتعددة، حيث لا شيء يمنع وقوع الحرب بين المستوطنين، بالتوازي مع حروبهم مع الفلسطينيين، حرب في الضفة وحرب مثلها في تل أبيب وحيفا. وربما يذهب الكيان الى فرز سكاني أظهرت بوادره التظاهرات، حيث الساحل للمعارضة ومستوطنات الضفة الغربية للحكومة، ويتعمّق هذا الفرز ويتعزز، بينما تنتصب المتاريس بين البلدات الفلسطينية والمستوطنات من حولها.
– لن تنفع المناشدات والضغوط الأميركية في تفادي الأسوأ، وسوف يستمرّ الانحدار والتآكل، بينما تتكفل المواجهات مع قوى المقاومة داخل فلسطين وخارجها، بتوفير لحظة منازلة لن يكون فيها الكيان قادراً على تفادي اللحظة القاسية، في قلب المدى الزمني الفاصل عن حلول الثمانين ولعنتها المقلقة للكيان والمهتمّين لأمره.