حرية المعتقد تُناقِض الإكراه في الدين أو في الأيديولوجيا؛ ومساواة الحقوق تتنافى مع إعطاء قيمة مميّزة لأيّ عقيدة. فالسلطة مشتركة للجميع، وعليها اتّخاذ الحياد، أمام العقائد، مبدأً لها. تتطلّب مساواة الحقوق إجراءات عادلة باتّخاذ القرارات على المستويات القانونية، للتأكيد على حيادية الدولة. هذا تعريف أوّليّ للعلمانية. ويمكنها التحقّق في فضاء ديموقراطي.
نَصَّ قانون العلمانية الفرنسي (1905)، على أن «الجمهورية تحمي حرية المعتقد، وتضمن الممارسةَ الحرّة للعبادات، بما فيها المصلحة العامة».
تتناول هذه الورقة مقاربة لمفهوم العلمانية، اللازمة لتحقيق المواطنة، عند سلطان الأطرش، وأنطون سعاده، وميشال عفلق، وإمكانية الاستفادة منه اليوم.
العلمانية عند القائد العام للثورة السورية الكبرى (1925-1937)
متمِّماً لطَرْحه في عصر النهضة العربية، رفع سلطان الأطرش شعار «الدين لله والوطن للجميع» لتلك الثورة، مؤكّداً على حياديّتها أمام الدين، ومعتبِراً الناس سواسية، حقوقاً وواجباتٍ، في «البلاد الشامية»: هذا جوهر المواطنة.
أول مَنْ أطلق شعار «الدين لله والوطن للجميع»، المعلّم بطرس البستاني، في النصف الثاني للقرن التاسع عشر، ردّاً على مذابح 1860؛ وأطلق «فصل السياسة عن الرياسة»، أي «فصل السياسة عن السُّلطة الدينية»؛ فغاية الدولة دنيوية محضة.
كان ثمة وعي كبير لدى القيادة العامة للثورة، لحساسية المسألة الدينية في بلادنا، فتمّ رفع هذا الشعار لئلّا تُستَغَلّ المسألة الدينية ضد الثورة، وهذا ما حاولتْ فرنسا فعله. وأكّدت بيانات القيادة العامة حيادية الثورة تجاه السوريين بدياناتهم وطوائفهم كافة، ومفهوم المواطنة، بشكل لا لبس فيه. يقول الأطرش في إحدى رسائله إلى شقيقه زيد، نائب القائد العام: «حافظوا على المسيحيين، وإيّاكم أن تجعلوا أحداً يأتيهم بسوء. أمّنوهم على أنفسهم وحياتهم وأموالهم وامنعوا التعدّيات عنهم، لأننا كلّنا أبناء وطن واحد، وكلّنا عرب سوريون على حدّ سواء».
في القسم الأول لهذا الشعار (الدين لله)، حيادية الثورة واضحة على الصعيد الديني، وهي ضمان لعدم التحيّز: فقد احترمت الأديان وأقصت التعصّب. فيستطيع الإنسان التماهي في الوطن، ليجد نفسه متساوياً مع الآخرين مهما تكن معتقداته الروحية؛ فيتحقّق القسم الثاني، (الوطن للجميع). يهدف الشعار إلى التصدّي بالمقاومة الشريفة لتقسيم بلادنا الشامية إلى دويلات على أساس طائفي ومذهبي، فرضتْه فرنسا «العلمانية»؛ فجاءت الثورة لتقف بوجه ذلك، بشعارها وبهدفها: وحدة البلاد السورية، ساحلها وداخلها والاستقلال التام.
في عام 1954، اختار الرئيس هاشم الأتاسي السيد فارس الخوري رئيساً لمجلس الوزراء. جاء بعض الوطنيين لسؤال سلطان عن رأيه، فلمح منهم الاستهجان، فسألهم: «هل سيحكمنا الخوري والأتاسي بالإنجيل أم بالقرآن أم بالدستور؟»، فأجابوه: «بالدستور»! فقال: «وهو المطلوب. فما همّنا من معتقديْهما إذاً!».
العلمانية عند مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي
قارَبَ أنطون سعاده العَلمانية بوضوح وأعطاها التعريف المصطَلَح عليه، واعتبرها أهم قضية في حياة الأمة:
…” أهمّ القضايا الاجتماعية – السياسية للأمّة، نعني قضية فصل الدين عن الدولة وجمع صفوف الشعب في مبدأ القومية الصحيحة، ومنع توليد الأحقاد الدينية بإضرام نار عداوة الأديان…». فالحروب ذات الصبغة الدينية والطائفية، رغم أن أهدافها معروفة وكذلك المحرِّض عليها، إلا أنها لم تكن لتقع في بلادنا لولا تدخّل الدين في الحياة السياسية لتحريض الناس!
– “المبدأ الأول من القسم الإصلاحي يقول: فصل الدين عن الدولة».
– “المبدأ الثاني يقول: منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين».
وقد بيّنَ لنا سعاده الطريق العملية لتطبيق العلمانية، التي غايتها تحقيق المواطنة: «إنّ الأحوال القومية المدنية والحقوق العامة لا يمكن أن تستقيم حيث القضاء متعدّد أو متضارب ومقسّم على المذاهب الدينية، الأمر الذي يمنع وحدة الشرائع الضرورية لوحدة النظام. لا بُدّ، للدولة القومية الاجتماعية، من وحدة قضائية – وحدة شرعية. وهذه الوحدة، التي تجعل جميع أعضاء الدولة يحسّون بأنهم متساوون أمام القانون الواحد، هي أمر لا غنى عنه».
ونحن اليوم في بلادنا، لدينا قوانين أحوال شخصية خاصة بكل طائفة ومذهب، فكيف ستتحقّق المواطنة فيها بهذه الاختلافات القانونية؟
«كيف يمكن أن يكون الشعب واحداً مع أنّ فئة كذا لا يمكن أن تختلط مع فئة كذا أو كذا؟ أليس هذا إيثاراً للشعور بالفوارق في الأمة؟ وكيف تكون أمة واحدة وأعضاؤها يشعرون بالفوارق بين فئة وفئة، بين جماعة وجماعة أخرى؟ لا يمكن أن يوزع شيء بالتساوي على العموم، بل يقال لهذه الفئة كذا ولتلك الفئة كذا».
لقد فرّق سعاده بوضوح بين قضايا السماء والأرض: «النهضة القومية الاجتماعية تقول: إنّ قضايا السماء تُحَلّ في السماء. إنها قضايا بين الفرد والله، لا بين جماعة وجماعة، فلا فائدة من اقتتال جماعة وجماعة لأجل السماء ما دام الله هو الديّان الذي يقضي يوم الحشر، وما دام الناس قد أسلموا لله». وهو يلتقي بذلك تماماً مع الإمام عبد الرحمن الكواكبي في قوله: «دعونا ندبّر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط»! وقد أكّد سعاده على أنّ الرسالة المسيحية والإسلامية هما رسالة واحدة للسوريين: «ليس من سوري إلا وهو مسلم لرب العالمين (…) فقد جَمَعَنا الإسلام: منّا مَن أسلَمَ لله بالإنجيل، ومنّا مَن أسلَمَ لله بالقرآن، ومنّا مَن أسلَمَ لله بالحكمة».
كما أكّد على العدالة الاجتماعية عبر اقتصاد منتج، أساسيّ لبناء دولة غير تابعة، يضمن المصلحة العامة ويمنع الرأسمالية الأنانية: «لذلك كان الإنتاج مقصداً رئيسياً من مقاصد التفكير في الدولة القومية. وعلى أساس الإنتاج فقط، يمكن النظر في إيجاد العدل الاجتماعي الحقوقي بين الذين يشتركون في الإنتاج»؛ «إن ثروة الأمة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة وضبط الدولة القومية». كما أكّد على حرية الفكر وعلى أنّ الدولة الديموقراطية هي قومية حتماً، وهي تمثّل مصلحة الشعب؛ كما أكّد على أهمية فصل السلطات الثلاث: «فتمثيل الشعب هو مبدأ ديموقراطي قومي (…). والوسيلة التي مكّنت المتّحَد من تحقيق هذا المبدأ الجديد هي التمثيل السياسي الذي مكّنَ من الفصل بين السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية وترجيح كفّة السلطة التشريعية، لأنها تمثّل الشعب… ».
العلمانية عند مؤسّس حزب البعث العربي
يُعطي ميشال عفلق للدين أهمية حياتية روحية، وينطلق منه إلى العلمانية، التي لا يذكرها بالاسم، لكنه يعطي معناها في مقولاته: حيادية الحزب أمام العقائد الدينية وتحقيق المواطنة في التأكيد على المساواة، حقوقاً وواجباتٍ؛ فقد كان مؤسس حزب البعث يعتبر أنّ «الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان…»، فيبيّن، هكذا، ما اصطُلِحَ على تسميته بالعلمانية المؤمنة، التي يقول عنها الكاتب سامر خير أحمد، بأنها تقوم على ثلاثة مبادئ: فهي فكرة من داخل الثقافة العربية الإسلامية؛ وتعني فصل رجال الدين عن الدولة؛ وتستهدف بناء دولة مدنية تقوم على القانون واحترام التعددية والاختلاف وحرية الفكر، ولا تسعى إلى أدلجة الدولة.
كتب عفلق: «نحن الجيل العربي الجديد… لا يفهمنا إلا المؤمنون، المؤمنون بالله. قد لا نُرى نصلّي مع المصلّين، أو نصوم مع الصائمين، ولكننا نؤمن بالله لأننا في حاجة ملحّة وفقر إليه عصيب، فعبؤنا ثقيل وطريقنا وعر وغايتنا بعيدة».
ابتعد معظم الحزبيين عن الديموقراطية، وهي لازمة وضرورية كفضاء للعلمانية وتفتّحها. فيما كان البعثيون الأوائل، في معظمهم، وبالأخص المدنيون منهم، علمانيين فكراً وممارسةً: فهموا بعمق دعوة عفلق إلى بناء «الجيل العربي الجديد» المؤمن، إنما الحيادي أمام العقائد الدينية والتنوّعات الإثنية في الدولة العربية العادلة والديموقراطية:
“فنحن عندما ننادي بالمساواة الاقتصادية وبتكافؤ الفرص، نعني أننا سلّمنا قضية البلاد لأصحابها الحقيقيين وهم أفراد الشعب. وهم في حقيقتهم شيء واحد لا فرق بين مسلم ومسيحي وعربي وكردي وبربري… إلخ”.
كما فهم البعثيون الأوائل علاقة العروبة بالإسلام: فالعروبة هوية والإسلام، كثورة اجتماعية، روح لها. أوضح عفلق العلاقة بين العروبة والإسلام، قائلاً في «ذكرى الرسول العربي»: «هذه التجربة… هي استعداد دائم في الأمة العربية – إذا فُهِمَ الإسلام على حقيقته – لكي تهبّ في كل وقت تسيطر فيها المادة على الروح، والمظهر على الجوهر، فتنقسم على نفسها لتصل إلى الوحدة العليا والانسجام السليم، وهي تجربة لتقوية أخلاقها كلما لانت..”.
كما كتب عن فَهْم المسيحيين من الجيل العربي الجديد للعروبة وعلاقتها بالإسلام: «وسوف يعرف المسيحيون العرب… أن الإسلام هو لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبّعوا بها حتى يفهموها ويحبّوها”.
وأكّد على إنسانية العروبة باحترامها لحرية الفكر وللتنوّع الإثني في الوطن العربي، والاعتراف بحقوق الإثنيات الثقافية بما يصون الأمن القومي في مواجهة أطماع الإمبريالية والصهيونية.
“لا أحد يمنع الأكراد من أن يتعلّموا لغتهم، شريطة أن يكونوا خاضعين لقوانين الدولة ولا يشكّلوا خطراً على الدولة… فالعروبة هي إنسانية ونحن نفهم من قوميتنا العربية بأنها الإنسانية الصحيحة وبأنها تقديس لقوميات الآخرين، فنقدّس هذا الشعور عند كل شعب آخر». «فأفراد الشعب من الأكراد ماذا يريدون وأيّ شيء يطمحون إليه أكثر من أن يعيشوا حياة كريمة سعيدة، وأن يكون لهم ما للجميع وعليهم ما على الجميع، باستثناء بعض الزعماء الذين لهم مصالح إقطاعية؟ أفراد الشعب هؤلاء لا يريدون أكثر ممّا يريده العرب أنفسهم».
بالنسبة إلى عفلق، الطائفية «تغلُّب روابط سطحية تافهة على روابط أساسية عميقة»، فاعتبرها حالة طارئة.
هكذا تكون طبيعة العروبة غير إقصائية، فتتمحور حول المشروع النهضوي: الوحدة والمشاركة الديموقراطية الشعبية والاستقلال الوطني والتنمية والعدالة الاجتماعية والتجدّد الحضاري: «لا يمكن لثقافة العروبة إلا أن تكون ثقافة حوارية بعيدة عن ثقافة الإقصاء كما يؤمن العروبيون. لذلك لا مكان لأيّ نوع من التمييز ناهيك عن العنصرية».
في سورية، كانت الجمعية التأسيسية (1950) تناقش وضع دستور جديد، فقامت تظاهرات للتيارات الدينية لفرض الإسلام ديناً على الدولة في الدستور. فأقرّت الجمعية التأسيسية، للأسف، بأنّ «دين رئيس الدولة هو الإسلام»! وهذا لا يزال، في المادة الثالثة للدستور، شرطاً نافياً للمواطنة!
إلا أنّ المؤتمر القومي الرابع لحزب البعث (1960) أقرَّ بأنّ «أفضل سبيل لتوضيح فكرتنا القومية، هو شرح وإبراز مفهومها التقدمي العلماني… وسيكون نضالنا في هذه المرحلة مركَّزاً حول تأكيد علمانية حركتنا ومضمونها الاشتراكي، لاستقطاب قاعدة شعبية لا طائفية».
السعي لتحقيق العَلمانية في بلادنا
-علمَنة التعليم العام: ترتكز العلمانية على ثلاث ضرورات؛ حرية المعتقد والمساواة بين الجميع والتطلّع للمصلحة العامة، مبرِّراً وحيداً لوجود الدولة. وأهم وسيلة لذلك علمنة التعليم العام، بدءاً بالمدرسة العامة وصولاً إلى التعليم العالي العام. أمّا في المدرسة، فيتحقق ذلك بعدم خضوعها لسلطة الدين، كي تصبح بحق مدرسةَ الجميع: هي ليست ضد الدين، بل هي غير دينية، وبذلك فهي تنتمي إلى الفضاء العام، وتترك للحيّز الخاص فسحة واسعة للاهتمام بالخيار الروحي للفرد. أمّا التعليم فيجب أن يهتم ببناء القدرة على المحاكمة المتنوِّرة والمتعقِّلة للإنسان. كما يمكن للمدرسة وضع أسس لثقافة مشتركة، أهم اهتماماتها هما العقل والحقيقة. أمّا منهاجها، فيؤكّد على إعمال التفكير والنقد بحرية مسؤولة، ولا يهتم بالتلقين، ولا يؤكّد مطلقاً على دين معيّن. هذا الفصل بين الدين والتعليم، لا يعطي الحقَّ لأنْ تحلَّ أيديولوجيا أخرى محلَّ الدين المفصول عن التعليم.
أقرّت الجمعية التأسيسية، للأسف، بأنّ «دين رئيس الدولة هو الإسلام»! وهذا لا يزال، في المادة الثالثة للدستور، شرطاً نافياً للمواطنة!
تحتاج علمنة المدرسة إلى تربية التلاميذ منذ الصغر، كما تحتاج الديموقراطية إلى تربيتهم منذ الصغر في البيت والمدرسة. يمكن للدولة، بالتعاون مع المجتمع المدني المؤمن بالعلمانية، تنظيم ندوات توعية في أماكن العمل والتجمّعات البشرية، إضافة إلى إلغاء تدريس مادة الديانة واستبدالها بتدريس مادة الأخلاق العامة. وهدف تلك الندوات إيضاح فكرة حيادية الدولة تجاه جميع المعتقدات، ومساواة الحقوق والواجبات، في جوّ من الحرية الفكرية وحرية ممارسة الشعائر الدينية، والتأكيد على أنّ «الحرية حق لكل مواطن ولا توجِب الصدام الدامي».
-العلمانية والديموقراطية والمواطنة والعدالة الاجتماعية: لا يمكن فصل العلمانية عن مفهومَي المواطنة والعدالة الاجتماعية؛ وواجب المؤمنين بها التركيز على أهمية الديموقراطية والحريات العامة، التي لا تستقيم العلمانية من دونها. فالمواطنون هم الذين سيعملون على دعم تحقيق المواطنة، عبر العلمانية، حين يستطيعون التعبير بحرّية عن آرائهم، في جوّ صحي من الديموقراطية. ولتكون الجاهزية الوطنية في أتمّ فاعلية، يجب أن تصون الدولة، بالقانون، كرامة المواطن بالعيش الكريم وبالعدالة الاجتماعية وبالتوزيع العادل للثروة، وألا تتخلّى عن واجبها الاجتماعي تجاه مواطنيها، وخاصة الفئات الضعيفة اقتصادياً! تتطلّب العلمانية أناساً ضمائرُهم متحرّرة، وتكون قادرة على سَنِّ قوانين توحّدهم.
إنّ الأفقَ العلماني شعورٌ بالحرية وتصميمٌ على استخدامها جيداً؛ وعلى المرء أن يحترمَ حقّ الإيمان أو عدمَ الإيمان وحقّ التفكير ما دام ذلك يعبّر عن حقٍ أساسي للفرد. كما أن فضاء العلمانية هو الديموقراطية، التي لا تتحقق فعلاً إلا بفصل تام وواضح بين السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية. وهذا غير محقَّق، اليوم، في دساتيرنا.
*جريدة الأخبار اللبنانية، الأربعاء 28 حزيران 2023.
(ليكن الهدف بناء الدولة «الحيادية» أمام المعتقدات، ما سيفتح أبواب الأمل مجدّداً للجميع بحياة ترعى قيم الحق والخير والجَمال).