يُطرح سؤال جدي عن امكانية محاسبة شركتي التدقيق الدوليتين اللتين تدققان في حسابات مصرف لبنان وميزانياته، (ديلويت اند توش وأرنست اند يونغ)، فهل يمكن اعتبارهما شريكتين بشكل مباشر او غير مباشر عن الاسباب التي أدت الى الانهيار المالي وخسارة المودعين لأموالهم، أم لا؟ علماً بأن الشركتين معنيتان حتى سنة 2018 بتوقفهما عن التدقيق في حسابات مصرف لبنان، وهناك على الدوام مسؤولية تقع على عاتق مفوض الحكومة في مصرف لبنان.
ماذا في القوانين ذات الصلة؟
في الميزان القانوني يشرح الأستاذ المُحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، الدكتور كريم ضاهر لـ»نداء الوطن» أن «المادة 13 من قانون النقد والتسليف تعطي «المركزي» نوعاً من الاستقلالية المالية، وتعتبره تاجراًَ في علاقته مع الغير، ويمكن ان يكون لديه تدقيق محاسبي خارجي ( شركات التدقيق)، وداخلي وفقاً للمواد 41 حتى 46 أي مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان. وهناك مرسوم نظم هذه المواد هو المرسوم 16400 الصادر في 22 ايار 1964 وتنص مواده على ان مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان يتولى تطبيق القانون ومراقبة محاسبة «المركزي»، والقيام بما يلزم من ابحاث تتعلق بالنقد والتسليف»، مشيراً الى أن «من ضمن مهام مفوض الحكومة الاساسية (بحسب المادة 10 من المرسوم 16400) وضع برنامج سنوي للمراقبة الذي يخوله القانون اجراءها، ويمكن ان يطلع على كل المستندات ويدقق بمحاسبة المصرف ويتثبت من ان «المركزي» يتقيد بأحكام القانون، واذا اكتشف اي مخالفة عليه لفت نظر الحاكم اليها، وابلاغ وزير المالية لتوقيف اي قرار مخالف، ويمكنه ان يطلب من سلطات المصرف تزويده بأي معلومات يمكن أن تساعد على اجراء المهمة الموكلة اليه».
يضيف: «عليه التأكد ايضاً من ان الرقابة على المصارف يجريها «المركزي» وفقاً للأصول، وهذا يوصلنا الى نتيجة هي ان مفوض الحكومة لديه مسؤولية كبيرة جداً من حيث الرقابة الداخلية، واذا قصّر فيها تتم محاسبته وفقاً لقانون الموظفين والقوانين المرعية الاجراء بعقوبات مسلكية، وفي حال ثبت جرم الغش يحاكم وفقاً لقانون العقوبات الفصل الاول من الباب الثالث اي المواد 351 وتوابعها».
التدقيق الخارجي
يوضح ضاهر أن «الشق الثاني من التدقيق هو الخارجي. والمادة 13 من قانون النقد والتسليف تنص على أن «المركزي» يحق له تعيين رقابة خارجية حتى مع وجود مفوض الحكومة وهذا لا يعفي المفوض من المسؤولية. وهناك عدة نصوص مختصة بذلك بدءاً من قانون التجارة الذي تمّ تعديله حديثاً بموجب القانون 126 / 2019 الذي عدّل قانون التجارة وعدّل المادة 174 وتوابعها، وفرض في المادة 178 مسؤولية على مفوضي المراقبة بصفة فردية، او تضامناً كلما ارتكبوا خطأ في المراقبة مع الاحتفاظ بمهلة مرور الزمن ( بعد 5 سنوات)، مع احتساب فترة تعليق المهل (والتي يمكن ان تصل الى مرحلة الهندسات المالية). ويمكن محاسبتهم وفقاً لقانون التجارة على اخطائهم واهمالهم والمطالبة بالتعويض بالنسبة للخسارة التي ترتبت (نموذج شركة Andersen Worldwide).
قانون النقد والتسليف
يضيف: «النص الثاني الذي يرعى هذا الموضوع هو قانون النقد والتسليف (المواد 185/187) الذي ينص في مادتيه أنه على مفوضي المراقبة خلال عام ان يطلعوا فوراً السلطات المسؤولة في المصرف المولجين مراقبته، على المخالفات التي لحظوها والطلب منهم تسويتها في اقرب وقت ممكن. وعليهم ان يضعوا تقريراً سنوياً مفصلاً عن اعمال المراقبة التي قاموا بها ويسلموه الى السلطات المسؤولة في المصرف»، لافتاً الى أنه «في حال أخلوا بهذا الدور فان المادة 202 من قانون النقد والتسليف تعتبرهم شركاء في الجرم، وتطبق عليهم نفس العقوبات التي تطبق على الفاعلين الرئيسيين لأنهم ارتكبوا الاخطاء عن قصد او اهمال او لإخلالهم بواجباتهم، وتطبق عليهم المادة 356 من قانون العقوبات الذي يلحظ حبس المرتكب من شهر الى سنة وبغرامة تبلغ ضعفي قيمة المبلغ، على الأقل، الذي تسبب في خسارته».
إمكانية الملاحقة
يلفت ضاهر ايضاً الى القانون الذي ينظم عمل مفوضي المراقبة وهو القانون 364 /1994، بالاضافة الى المسؤوليات التي تترتب عليهم سواء من حيث قانون التجارة الذي يحملهم المسؤولية ويسمح للمتضرر بملاحقتهم بالتعويض، وهذا ما يمكن ان يقوم به كل من مصرف لبنان (الزبون الاساسي) والدولة اللبنانية بالرغم من وجود مفوض الحكومة لأنها تعرضت للغشّ بتقارير مفوض المراقبة (شركات التدقيق ومحاسبيهم). اما دائنو مصرف لبنان فيمكنهم ايضاً، برأيي، ملاحقة مفوضي المراقبة (شركات التدقيق) لأنه تم غشّهم بتقارير هذه الشركات في حال لم يكونوا شركاء في الجرم ومطالبتهم بالتعويض»،لافتاً الى أن «المصارف يمكن أن تلاحق مفوضي المراقبة وهي شركات عالمية ومطالبتها بالتعويض، وهنا يمكن النفاذ الى اموال المودعين من خلال وضع هذه التعويضات بصندوق خاص لاسترداد اموال المودعين. وأنا احبذ شخصياً ملاحقة كل شخص أخلّ بواجباته، ويجب تحديد المسؤوليات بدءاً من المنظومة والمسؤولين عن المصارف وايضاً الجهاز المالي والاداري في مصرف لبنان».
من يتحمّل المسؤولية؟
ويشير الى أن «هناك علاقة مباشرة بين المودع والمصارف بموجب العقود الموقعة. بامكان المودع المطالبة بحقوقه بعدة اشكال، اولها المطالبة بوديعته عن طريق القضاء المدني وقضاء الامور المستعجلة وهذا حصل من قبل عدة مودعين، وايضاً عن طريق القانون 2/ 67 اي قانون التوقف عن السداد ولا سيما المادة الرابعة منه، وايضاً عن طريق الافلاس الاحتيالي وفقاً لقانون التجارة والعقوبات. لكنه لا يمكنه ان يقاضي «المركزي» لأن العقود موقعة مع المصارف وليس معه»، مشيراً الى أن «العلاقة الثانية هي العلاقة بين المصارف ومصرف لبنان والدولة. فالمصارف وضعت اموالها في «المركزي» واستثمرت في سندات الخزينة، ووفقاً لقانون النقد والتسليف (المادة 13 منه) يعتبر «المركزي» تاجراً في علاقته مع الغير أي مع المصارف، وتنظم عملياته وحساباته وفقاً للقواعد التجارية والمصرفية ويمكن ملاحقته وفقاً لقانون التجارة والقوانين النافذة، والمطالبة باسترداد توظيفات المصرف من «المركزي» وتحميله المسؤولية عن كل ما ترتب».
ويختم: «ما تحاول المصارف والمصرفيون القيام به هو الاستيلاء على اصول الدولة بهدف ضمان حقوقهم، ويحاولون الاستعانة بالمادة 113 من قانون النقد والتسليف التي تتضمن احدى فقراتها انه «في حال سجل مصرف لبنان عجزاً في احدى السنوات تتم تغطيته من الدولة اللبنانية» ولكن من ضمن شروط معينة وهذا لا ينطبق على سلوك المركزي».”.
مخطط بونزي الإحتيالي
يشرح الخبير الاقتصادي ميشال قزح لـ»نداء الوطن» أن «الملاحقة القانونية لشركات التدقيق يمكن ان تتم اما عبر جمعيات المودعين أو المودعين الكبار، لأنهم كانوا يدققون في حسابات مصرف لبنان، ومن جهة أخرى كانوا يدققون في حسابات المصارف، وكانوا يرون مخطط «البونزي» الاحتيالي الذي يحصل»، سائلاً عما اذا كان «مصرف لبنان قام بخداعهم ولم يكونوا على علم بحجم الفجوة الموجودة في حساباته. فواجبات شركات التدقيق التأكد من عدم وجود خلل في هذه الحسابات، والمشكلة هي ان «المركزي» كان يخبئ خسائره في حساب اسمه «موجودات اخرى» وكانت تتراكم الى ان وصلت الى 70 مليار دولار».
يضيف: «واجبات شركات التدقيق كانت بالامتناع عن ابداء الرأي او ابداء الرأي مع اظهار ان هناك خسائر تتراكم في الحساب ولا تعرف ما هي وحجمها، وهذه المسؤولية تقع عليها. لبنان يمكن ان يقاضي هذه الشركات وهذا ما حصل في تجربة في الولايات المتحدة عندما عمدت شركة Andersen Worldwide الى الاعلان ان حسابات شركة إنرون، (شركة طاقة أميركية) سليمة قبل أشهر من انهيارها، بينما الشركة كانت تخبئ خسائر بمليارات الدولارات. وعلى اثر هذا الانهيار تم اتخاذ قرار في المحكمة باقفال Andersen Worldwide التي كانت اكبر شركة تدقيق في العالم»، لافتاً الى انه ربما كانت شركات التدقيق التي كانت تدقق في حسابات مصرف لبنان، اكتشفت بند «موجودات اخرى»، ولم تعلن عن ذلك ربما بحسن او سوء نية. ولذلك يحق مقاضاتها من قبل المودعين الكبار والمصارف لأن ميزانيات الجهتين كانت تصدق من قبل الشركات نفسها».
لا علاقة بين المودع والبنك المركزي
على ضفة خبراء المحاسبة، يعتبر مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية الدكتور امين صالح لـ»نداء الوطن» أن «لا علاقة مباشرة بين المودعين والمصرف المركزي. فالعلاقة القانونية بينهم وبين المصارف ولا يجوز الخلط بينهما، كما يجب فصل الذمة المالية بين «المركزي» والمصارف. وهناك مصلحة للمصارف بتحميل المسؤولية لـ»المركزي» والدولة والايحاء بأنها وضعت أموال المودعين في «المركزي» الذي موّل الدولة»، مشدداً على أن «هذا لا علاقة له بأساس المشكلة وهي أن المودع وضع أمواله في المصرف. والمصرف مسؤول عن هذه الوديعة لأنه عليه استثمار الاموال بالطريقة التي تحفظ اموال مودعيه».
مدققو حسابات المصارف مسؤولون
يضيف: «كل مدققي الحسابات في المصارف هم مسؤولون. فاذا تحرك القضاء ضد المصارف وضد مجالس الادارة سيستدعى جميع مفوضي مراقبة البنوك الى التحقيق لمعرفة ما اذا وافقوا في تقاريرهم على الميزانيات ام لا ام تحفظوا»، مشيراً الى أنه «لا يمكن الحكم من دون الاطلاع على تقارير مفوضي المراقبة لمعرفة ما إذا كانت المصارف قد اتخذت مبادئ الحيطة والحذر وكوّنت المخصصات، وهم يتحملون المسؤولية اذا اخلوا بواجباتهم لكن من يحكم بذلك؟ بالتأكيد هو خبير محاسبة يعين من قبل القضاء ليحكم بان تقارير مفوضي المراقبة كانت صحيحة ام لا».
هناك جملة اسئلة
يوضح صالح أن «مفوضي المراقبة في شركتي التدقيق التي كانت تدقق في حسابات «المركزي» هم يمثلون شركات محلية لديها ترخيص من الشركات الاجنبية سواء أكانت «ارنست أند يونغ» او غيرها، وهم تابعون لشركات اجنبية تقوم دورياً بالتدقيق بجودة اعمالهم. وهذه الشركات ليس ملزماً مصرف لبنان الاستعانة بها قانونياً، بل مفوض الحكومة هو من يدقق بحسابات «المركزي» ووزير المالية من يوافق او يرفض هذه الحسابات»، معتبراً أن «ذلك لا يعفي المركزي من مسؤولياته، ولا شركات التدقيق في تحمل مسؤولياتها لجهة التأكد من ان «المركزي» كوّن احتياطيات او مخصصات نتيجة عجز الدولة عن ايفاء ديونها اليه؟ وهل «المركزي» التزم قانون النقد والتسليف لجهة التسديد للدولة؟ هل التزم قانون النقد والتسليف بتسليفه البنوك؟ وهل أطلَع مفوضي المراقبة على حساب الارباح والخسائر؟ وما هي هذه الخسائر التي وضعها في حساباته والتي تعتبر مخالفة لقواعد المحاسبة ومعاييرها ولقانون النقد والتسليف؟».
يرى صالح أنه «بعد الاجابة على كل هذه الاسئلة يمكن القول أن هناك جهتين تتحملان المسؤولية، هما وزارة المالية ومفوض الحكومة لدى «المركزي» من جهة، ومدققو حسابات من جهة أخرى لمعرفة ما اذا كانوا فعلاً قد أبدوا رأياً وفقاً لمعايير التدقيق والمحاسبة والقواعد المحاسبية المنصوص عليها في التصنيف المحاسبي، ووفق قانون النقد والتسليف ومعايير بازل 1و 2 و 3»، لافتاً الى أن «من عليه أن يحكم فيها هو القضاء كما فعل القضاء الفرنسي الذي حقق مع بعض مدققي الحسابات التابعين للشركتين”.