العالم الرقمي لم يعّد مجرّد فكرة نكتب عنها، أو دراسة استكشافيّة نحاول من خلالها فهم نظرية التحوّل الى هوية إنسانية جديدة تكتسب سلوكيّاتٍ عن طريق التفاعل الافتراضي وتشكّل بيئة رقمية خاصة بها. وبالتالي نحن أمام مجتمع مشرّعة أبوابه على سلوكيات (ولغة) تشكّل جماعة خاصة لا تشبه تلك الجماعات الطبيعية التي تجتمع في بيئة معينة وتتواصل مادياً وروحياً.
هذه الثورة الرقميّة التي يمكن ربطها بما قدّمته نظرية “البراديغم” عند “توماس كوهن”، عندما قدّم لنا تفسيرًا حول بنية الثورات العلمية والتي هي قائمة على 3 أركان: الجماعة العلمية، الأزمة والبراديغم. وهذا الأخير يشكل مجموعة الأفكار التي يكوّنها جماعة العلماء وفهمهم لها، حيث تدخل الشروط الاجتماعية لتكوين هذه الجماعة (ولديهم ما يجمعهم). أما التواصل داخل هذه الجماعة فيكون عن طريق لغة مشتركة “براديغم”. وبالتالي هناك التزامات مشتركة عند هذه الجماعة في فترة زمنية معينة. وهكذا فعند كوهن إنّ العالِم (الإنسان العالم) هو الذي يصنع العالَم وليس العكس، الأمر الذي يطرح الإشكالية التالية: إلى أي مدى يؤثر العالم الرقمي في تشكيل براديغم خاص؟ أو صياغة مجتمع افتراضي يشكّل مواطنة رقمية لها هوية خاصة؟ وإلى أي مدى تشكّل المواطنة الرقمية مجموعة من الأشخاص التي يتسرّب منها العالم الجديد؟
يعتبر توماس كوهن العلم ظاهرة اجتماعية وهو نشاط اجتماعي. فالحتمية الرقمية تفرض علينا أسلوب عيش معين بسبب تراكم الأزمات وإيجاد الحلول لها، فيأتي الحل عند فهم جديد للعالم ورؤية عامة جديدة نتيجة اكتشاف علمي جديد. وهكذا فإن المواطنة الرقمية تتفوّق على المواطنة التقليدية وأصبحت قيمتها العلمية أكبر. فبسبب التطوّر تبدأ الأزمة ويعجز العلم العادي على حل المشاكل فينشأ الـبراديغم لأن القواعد العلمية ليست ثابتة وليست دائمة.
فما هي المواطنة الرقمية وكيف يتفاعل المواطن في ظل التحوّلات الرقمية المتسارعة وما هي أبرز المقترحات؟
يواجه المواطن اليوم مجموعة تغيرات إذ أصبح عليه أن يكون الشخص الذي يتكيّف مع العالم الرقميّ، ويثبت قدرته في استخدام التقنيات الرقمية بشكل فعّال للتواصل مع الآخرين والمشاركة في المجتمع، حيث يمارس حقوقه ويعرف واجباته عند استخدام المحتوى الرقمي. لذلك يتبين لنا أن المواطن أمام تحديات رقمية، وهنا يقع على عاتق المدرسة وأولياء الأمور تثقيف الطلاب حول المواطنة الرقمية من أجل أن يكون هناك دور إيجابي للمواطن الرقمي، والاستفادة من إيجابياتها بما توفره من هوية مميزة في العالم الرقمي الافتراضي. كما علينا أن نعلم بأن هناك ضوابط وقواعد في العالم الرقمي الافتراضي يمكن توجيه المواطن الرقمي نحو منافعها وكيفية التفاعل معها. وهنا نشير إلى أنه كما جرت الأبحاث والدراسات التي انبثقت منها نظريات حول التنشئة الأسرية ومصادرها وأهمية دور الأهل والمدرسة، لا تقل التنشئة الرقمية أهمية عن هذا الدور لأن العالم الافتراضي أصبح حتميًّا كما أكدت عليه نظرية البيئة الحتمية، وعليه لا بدّ من أن يدرك الأهل والمدرسة واجباتهم ودورهم لتكوين مواطن رقمي ومسؤول قادر على اكتساب قيمة الرقمية التي تعتبر مقياسًا للسلوك ومنظمة للعلاقات ليصبح كائناً اجتماعياً رقمياً. ولا يغيب عنا ما وجدناه في كتاب “ميلاد مجتمع مالك بن نبي حيث تحدّث عن التربية في قوله: “ليس الهدف أن نُعلّم الناس أن يقولوا أو يكتبوا… ولكن الهدف أن نعلم الفرد فن الحياة مع زملائه، أي نعلمه كيف يتحضّر”. وهذا ما يؤكد على أهمية الأنشطة وكيف تقوم على تحضير كائن اجتماعي وتكامله اجتماعيًا عن طريق اكتساب الثقافة مجتمعة. وهنا طبعًا يكون لنا الدور في تعليمه مع المجتمع الرقمي. لذلك يمكننا عرض بعض الاقتراحات للمواطن في ضوء التحوّلات الرقمية المتسارعة كما يلي:
– وضع برامج ومناهج المواطنة الرقمية وتدريسها بعد إعداد معلمين رقميين، وتدريبهم لخلق تفاعل رقمي ومراجعة الأزمات ووضع برامج أمنية.
– محو الأمية الرقمية والمعلوماتية.
– أمان الإنترنت.
– وضع برامج وإرشادات حول السلوك الرقمي وآداب التواصل وعدم الإساءة أو الضرر بالآخرين.
بناء عليه، لا بدّ من القول إن المواطن الرقمي هو شخص يستخدم تكنولوجيا المعلومات من أجل المشاركة في المجتمع والسياسة والحكومة. وفقًا لتعريف كارين موسبرغر، أحد مؤلفي المواطنة الرقمية: “الإنترنت والمجتمع والمشاركة، فإن المواطنين الرقميين هم أولئك الذين يستخدمون الإنترنت بانتظام وفعالية لديهم أيضًا فهم شامل للمواطنة الرقمية، بمجرد أن أي شخص حصل على عنوان أو بريد إلكتروني أو نشر صور أو فيديوهات يعتبر عضوًا ومواطناً رقمياً”.
من هذا المنطلق، وبالعودة إلى بعض المقاربات السوسيولوجية نجد المقاربة التفاعلية الرمزية التي تعتمد على الرموز لإيصال المعنى وتشكيل بيئة للتفاعل، وتعود أصول هذه النظرية إلى ماكس فيبر الذي اعتبر أن النظام الاجتماعي هو نتاج الأفعال التي يصدرها أفراد المجتمع. داخل البيئة المدرسية يجب أن تكون بيئة تفاعلية بين التلاميذ والأساتذة بحيث يمكن التنبؤ بسلوكيات المتعلمين من حيث الإنتاج أو التعثر. تركز هذه النظرية على الفرد والمعاني. الاتصال لا يمكن أن يكون موجودًا بين البشر دون وجود هذه المعاني. ولأن الإنسان نسق اجتماعي متجدّد فالعالم مادي رمزي، كل إشارة تحمل معنى يؤدي إلى سلوك معين ولكن في العالم الرقمي تغيرت هذه الوسائل واستبدلناها بغير نوع من الوسائل لإيصال معنى محدد، فإن التواصل الرقمي يغيب عنه أهم وسائل التواصل وهي الإشارات ولغة الجسد فلا يمكن فهم المعنى إلّا في وجود هذه اللُّغة لأن المعنى المقصود لا يصل تمامًا كما يريد المرسل أن يرسله، تبقى الوسيلة هي الأسبق لإيصال المعنى بين المرسل والمرسل إليه، وعليه في ظل التقدّم التكنولوجي والاستخدامات الرقمية تبقى المسألة تحتاج لوقت لإعادة تجديد تفاعلات رمزية وبيئة جديدة تتوافق مع العالم الرقمي لإيصال المعنى وفهم السلوكيات الرقمية. ويبقى للمدرسة والأهل الدور الأكبر في تعزيز المواطنة الرقمية وإعداد جيل رقمي جديد مسؤول يعرف حقوقه واجباته الرقمية، ويدرك تمامًا قواعد وضبط السلوك الرقمي للمحافظة على القواعد في التعامل مع الغير ويصبح أكثر تكيفًا وارتباطه بالمجتمع، لأنه من دونها يصبح الفرد أكثر حرية في الاستجابة لدوافعه العدوانية.
الواقع في لبنان
في لبنان، وعلى الرغم من وضع استراتيجية التحول الرقمي 2020-2030، التي تهدف الى توجيه التحول الرقمي للخدمة العامة في لبنان إلى مجتمع رقمي شامل حيث يمكن لجميع المواطنين والشركات والدوائر الحكومية والمنظمات الاستفادة من فرص عصر الإنترنت التي توفرها التقنيات الرقمية. وتدعو الاستراتيجية إلى نهج جديد “شامل للحكومة” وبرنامج عمل من شأنه تحسين الخدمات الرقمية بشكل جذري في لبنان. إلا أن الحقيقة تبين أن لبنان يفتقر إلى التركيبة المثمرة من التعليم العالي الموجه نحو الابتكار، والرأسمالية المغامِرة ومصالح الأمن القومي القوية، كما أنّ البنية التحتية الخاصة بالاتصالات، بما فيها الوصول إلى الإنترنت، لا يمكن الوثوق بها ومكلفة على حد سواء، وأما المكالمات الجماعية التي لا يمكن لغالبية الشركات الناشئة في العالم الاستغناء عنها، فيجب ترتيبها بعناية وفقاً لجودة الاتصال بالإنترنت المتاح في لبنان.
كما تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن لبنان الذي يعاني انهياراً اقتصادياً ومالياً متسارعاً هو الأسوأ في تاريخه، ومع إغلاق العالم الواقعي أبوابه أمام الحلول، يتطلع اللبناني الطامح إلى فضاء العالم الافتراضي بحثاً عن مخارج ممكنة للأزمة الاقتصادية والمالية المستفحلة. ففي ظل ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، يشكّل الإبداع العلمي والرأسمال البشري سلاح الدول والبلدان المحدودة الدخل والموارد المعدنية والباطنية.
إلا أن هناك تحديات تحول دون ذلك، تبدأ من انعدام الشفافيّة السائد في معظم القطاعات في لبنان، إضافةً الى عدم الامتثال لِلقانون الذي يجعل أي مبادرة حكوميّة أو غير حكومية تِجاه تطبيق سياسة البيانات المفتوحة (Open Data) شبه مستحيلة. لذلك، وأمام هذا المأزق، تظهر أهمية توجيه الجهود إلى “الاستثمار في الرأسمال البشري”، والإنتاج العلمي والمعرفي والتكنولوجيا الرقمية. ويُعَدّ هذا الأمر مقدمة لتحوّل على الصعيد البنيوي للاقتصاد اللبناني، يتماشى مع التغيرات التي فرضها عالم الإنترنت و”الأجهزة الذكية” وروبوت الذكاء الاصطناعي.
إلا أن هذه النظرة تبقى مجرّد حلم، وتدفعنا إلى قياس مدى قدرة لبنان على الاستجابة للتحديات التي يفرضها الجيل الجديد من الاتصالات، والفرص التي تقدمها الابتكارات العلمية الثورية. كما يختلط الأمر على البعض في لبنان، بين عملية استخدام التكنولوجيا الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي والاستثمار فيها والاستفادة من نتائجها ومخرجاتها. وبحسب الدراسات، يحتلّ لبنان موقعاً متأخراً في مجال الاستثمار في قطاع تكنولوجيا المعلومات.
وعليه نرى، أنه لا يشكّل غياب الشفافية العائق الوحيد أمام التحول الرقمي والمواطنة الرقمية في لبنان. بل يُعتبر الفساد في النظام السياسي المبني على الزبائنية والمحسوبيات عائقا أساسيا أمام ترسيخ الاصلاحات الادارية التي قد تؤمّن لِلمُواطن (الرقمي وغير الرقمي) أبسط المقوّمات لِلعيش اللاّئق الكريم. في ظلّ نِظام كهذا، من غير المُستَغرَب أن تنعدِم كل المبادرات نحو الإصلاح الإداري بما فيه الخطوات نحو المواطنة الرقميّة.
يضاف الى التحديات التي تتعلق بالدولة والمؤسسات، تحديات خاصة بالمواطن اللبناني الذي لا يشعر بالانتماء الى وطنه، ولا يمارس المواطنية انطلاقا من حقوقه وواجباته الوطنية، فالمواطن اللبناني الذي يعيش في عصر يحملَ الكثيرَ في مجالاتِ التكنولوجيا والرقميّةِ، ما زالَ قاصرًا عنْ بناءِ ثقافته الرقمية. فهو ما زال يعاني من تحدياتٌ تتعلّقُ بالإدارةِ التربويّةِ التعليميَّةِ في لبنان، كما تحديات ذات صلةٍ بدورِ الأسرةِ ومدى إسهامِها في نجاحِ العمليّةِ التربويَّةِ الرقمية.
أخيرا، لا بدّ من العمل على إيجادِ السبلِ التي تنشئ مواطنًا لبنانيا لا يساومُ على ولائِهِ لوطنه، يملكُ مِنَ الوعي لهويَّتِهِ الوطنيَّةِ ما يجعلُهُ يُعلي كرامةَ وطنِهِ على كلِّ ما عداه، ومِنَ الوعيِ لهويَّتِهِ الإنسانيَّةِ ما يجعلُهُ بمستوى الخروجِ من دائرةِ الكيانِ الضيِّقِ إلى رحاب الإنسانيَّةِ الشاملةِ والعالم الرقمي…
إنه التحدي الكبيرُ أمامَ مناهجِنا التعليميَةِ والجامعيَّةِ/ أمامَ مدارسِنا ومعاهدِنا وكلّياتنا وجامعاتِنا، معلِّمينا وتربويينا وأُسرِنا.
باختصارٍ أمامَ كلِّ مَنْ لَهُ يدٌ في بناءِ الإنسانِ (الرقمي أو غير الرقمي)، فإمّا أنْ يأتيَ البنيانُ رفيعًا، مَجيدًا، متألّقًا، مُبهرًا، وإما أنْ نشكِّلَ كائناتٍ معارِفُها ممسوخةٌ وأفكارُها ممجوجةٌ وإراداتُها مسلوبةٌ… فلنقمْ بدورنا ولنكنْ على قدرِ التحدّي.