فقد التعليم الرسمي والجامعي في لبنان رسالته في بناء أجيال مثقفة مدركة مؤمنة بهذا الوطن وبنهضته وتقدمه.. فالأزمة المالية والاقتصادية التي سرّعت انهيار الدولة ساهمت بتدمير قطاع التعليم بشكل لم يشهده تاريخ لبنان المعاصر، كما عملت على تشويه صورة الأساتذة من خلال ابتعاد البعض منهم عن القيم والأخلاق المهنية، بحجة الأزمة التي دمّرت مستقبلهم ومستقبل أولادهم، كما شرّدت العشرات من الأساتذة أصحاب الاختصاص إلى الخارج.
أما الواقع فيشير الى فوضى عارمة في المؤسسات التعليمية والجامعات، لناحية تراجع الأداء التعليمي عند الأساتذة وتحوّل الطلاب إلى هواة نقد وتهكم لما آلت إليه أمورهم.
خسر الطلاب خلال سنوات الأزمة اللغة العلمية الصحيحة والقدرة على تركيب جملة نقدية علمية مفيدة. كما خسر الأساتذة رسالتهم التعليمية بحثاً عن لقمة العيش، فمهنة التعليم المحاصر في لبنان لم تعد قادرة على تأمين أدنى مقومات الحياة الإنسانية.
في ظل هذه الفوضى التي يتخبط فيها الأساتذة والطلاب وبعد أن توقف التعليم لفترات زمنية طويلة بسبب الإضرابات، لم يعد الحديث عن مُصطلحيْ التعليم والتعلّم مجدياً. فالبيئة التعليمية أصبحت في الشارع، وبالتالي لم يعد بالإمكان الحديث عن المنظور السلوكيّ الذي يرتبط بإعداد بيئة تعليميّة تستهدف إكساب المتعلّمين سلوكات قابلة للملاحظة والقياس بالتركيز على مبادئ التعلّم السلّوكيّ، مثل جذب انتباه المتعلّمين، والتعزيز، وتقديم ملاحظات تصحيحيّة، وإتاحة الفرصة للمتعلّم لممارسة الاستجابات المرغوبة كأهداف تعليميّة.
كما افتقدت المدراس والجامعات أثناء العودة الى التعليم الحضوري الى المقاربة المعرفيّة التي تركّز في نماذجها التعليميّة على العمليّات المعرفيّة بدلًا من السلوكات الملاحظَة والقابلة للقياس. ووفقًا لنظريّات التعلّم المعرفيّة، “يُعد التعلّم عمليّة لا يمكن ملاحظتها بصورة مباشرة، وتركّز في الغالب على الفهم والتّفكير والإبداع. وبالانتقال من التشديد على التعليم المتمركز حول المُعلّم إلى الاهتمام بالمُتعلّم، طوّرت النظريّة البنائيّة منظورًا جديدًا للتعلّم كعمليّة تنشأ في عقل المتعلّم، الذي يعمل على إعادة هيكلة المعلومات، وذهب “برونر” إلى أنّ التعلّم عمليّة نشطة، ودعا إلى ممارسة التعليم بمشاركة نشطة من المتعلّم الذي يُعيد بناء المعرفة من خلال اتخاذ القرارات”.
كل هذا لم يحصل في مسيرة التعليم في لبنان منذ عام 2017 حتى نهاية 2022، وبداية التعليم الحضوري عام 2023، فبناء المعرفة تعرّض الى نكسة كبيرة وصلت عواقبها الى تخريج طلاب لم يمتلكوا من منهجية التعليم إلا تعريفها، فالتعليم الافتراضي كان كارثياً، أما الحضوري فكان أداة انتقام للكثير من الأساتذة من الحالة التي وصلوا اليها. فكان حضورهم باهتاً ونقلهم للمعارف بطيئاً، بالاضافة الى التغيب الدائم وعدم الالتزام بالتوصيفات والمناهج المطلوبة، كما اكتفى البعض من الأساتذة بتكليف الطلاب فقط بأبحاث “القص واللصق” ومن ثم طرحها كأسئلة في الامتحانات النهائية، حيث لم يبذل الأستاذ في ذلك أي جهد ولم يكن متصالحاً مع نفسه ومسيرته المهنية ورسالته التعليمية. خاصة أن التعلّم من منظور النظريّة البنائيّة مثلا يركّز على الفرد (المتعلّم)، والبنائيّة الاجتماعيّة تؤكد على أهمية الجماعة (تلاميذ الصفّ). وهكذا، في التيار الاجتماعيّ البنائيّ، تكون التفاعلات والتبادلات والصراعات المعرفيّة في قلب ديناميكيّات الصفّ. لذلك كان من المفترض على الأستاذ أن يقوم بإعداد مواقف تُمكّن المتعلّمين من الاشتراك في البناء التعاونيّ لمعارفهم. ويسمح أيضًا بظهور تلك المواقف، إلا أن ذلك لم يحصل في كثير من الأحيان، ويبقى الدليل القاطع على ذلك الرسائل الصوتية التي أرسلها الطلاب الى الجهات المختصة بأنهم مجرّد أصنام في صفوفهم، فالأساتذة لم يحركوا ساكناً في تفعيل العملية التعليمية ولم ينجزوا حتى في التلقين ما هو مطلوب من الكفايات المعرفية.
في النتيجة، وعلى الرغم من أنَّ السنوات القليلة الماضية كانت صعبة بشكل خاصّ لأنَّها فرضَت ضغوطًا هيكلية على قطاع التعليم لم تُعالَج بعد، حيث تركت المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية في حالة ضعف شديد في مواجهة تداعيات الأزمات السياسية والمالية الراهنة. إلا أنه لا بدّ من الاعتراف بأن التعليم في لبنان وصل الى مراتب متقدمة على مستوى العالم، وبالتالي على الجميع وخاصة الأساتذة احترام هذا التاريخ المشرّف للقطاع التعليمي الرسمي والجامعي في لبنان، والعودة الى الاندماج وتعزيز الانتماء الى المؤسسات التعليمية والدفاع عن مصالحها ومصلحة طلابها.