..سلّمني رقم هاتفه وروحه تتأرجح بين الشكّ واليقين. وحين ابتعدت عنه خطوات قليلة سألني: ذكّرني باسمك يا سيّدي، إنّ ذاكرتي باتت خوّانة، خصوصًا مع الأسماء الغريبة. قلت له بعد أن كدت أنسى الاسم: حَيران.
ثمّ عاد ليسألني وأنا في ذروة غلياني: لماذا تساعدني يا سيّد حَيران؟
سؤاله أربكني وزادني اضطرابًا فوق اضطرابي، ولو كان في الوقت متسّع وفي الإجابة فائدة لعدتُ وشرحتُ له قصّة وجعي منذ حتّى ما قبل هابيل وقابيل، ولهذا لم أجد سوى عبارة واحدة جاهزة على طرف لساني:
أساعدك لأني إنسان. ثمّ عاد ليرشقني بسؤال أشدّ إرباكًا: هل تؤمن بالله يا سيّد حَيران؟
كنت سأجيبه: بأيّ حقّ تطرح عليّ سؤالًا لم يسبق لي أن طرحته على نفسي؟ لكنّي خشيت جرح عواطفه، ولهذا اكتفيت بهزّ كتفيّ علامة اللامبالاة.
مضيت في طريقي وأنا أشعر بإعياء شديد. وما إن توارى جسدي خلف أشجار الزيتون وجدِتني أُفرغ كلّ ما في جوفي حتّى كاد الوهن يطيح بي أرضًا.
وقبل وصول البيت ألفيت نفسي حزينًا حزن طفل عائد من المقبرة بعد أن رأى أمّه تُدفن أمام ناظريه. وبدأت أجهش وأتمتم لنفسي بغضب مستعر: أنا ضئيل.. ضئيل.. لا أستحقّ أن أرمى بوردة ذابلة.. بل أستحقّ الجلد حتّى تخرج من لحمي قروح لا شفاء منها.. كيف حدث ولم أشمّ رائحة الحزن الفائحة بشدّة على بعد أمتار من روحي.. كيف حدث ذلك وأنا الذي اعتاد اشتمام رائحة الحزن من أيّ ركن على هذا الكوكب؟
حتّى حين كنت أحبس ذاتي داخل عزلتي، وأوصد الأبواب والنوافذ بإحكام، كان أنفي يستقبل رائحة الحزن من وراء الجدران والحواجز.. وليس هذا فحسبُ.. بل إنّي تجنّبت زيارة المقابر لأنّي لا أحتمل الرائحة الحزينة المنبعثة من تحت القبور.. كلّ ذلك يحدث ولا أشمّ ولو نفحة ريح حزينة من منزل جاري المفجوع؟
ترى، هل بدأت روحي تذوي وعواطفي تخبو؟ وما قيمتي، ساعتئذ، إذا فقدت إحساسي بأوجاع الناس وأحزانهم؟
#ماديانا_كآبةٌ_في_عقلي
#دار_النهضة_العربيّة