ناصر قنديل*
- سنة بعد سنة تظهر عناصر العبقرية الاستراتيجية والثقافية التي تميّز بها الإمام الخميني بابتكاره معادلة حشد ثقافي شعبي لإحياء يوم القدس في شهر رمضان، حيث تشكل المناسبة فرصة لتظهير حجم حضور القضية الفلسطينية في العالمين العربي والإسلامي من جهة، وفي شوارع العواصم العالمية من جهة مقابلة، بعدما تجاوز الإحياء المسلمين وأصبح مناسبة يلتقي خلالها وتحت مظلتها كل أنصار فلسطين وأحرار العالم المتمسكين بقضيتها.
- هذا العام يطلّ على المناسبة مختلفاً، فقد تراجعت موجة التطبيع التي هدفت إلى محو ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية في العداء لكيان الاحتلال، وتعميم ثقافة الانسحاب من المشهد الفلسطيني والتنكّر لواجب دعمه والوقوف إلى جانب مقاومته، وتتراجع الصراعات المذهبية التي نمت على كتف النزاع السعودي الإيراني لما للدولتين من مكانة وقدرة على التأثير على الشارعين المذهبيين الرئيسيين في البيئة الإسلامية المستهدفة بالتحرك في يوم القدس، فتزول من أمام المناسبة عقبات وتعقيدات كبيرة، ويتولّد مناخ نفسيّ ملائم لكي تحضر فلسطين والقدس بكل زهو الحضور.
- هذا العام يطلّ يوم القدس والفلسطينيون يكتبون ملاحم البطولة، وهم يقاتلون بكل ما يصل لأيديهم، بالسلاح حيث توفر، بالصدور العارية والحجارة والدهس والطعن حيث يُتاح كل منها، ويقف العالم مذهولاً أمام بطولاتهم، وتحديهم للآلة العسكرية لجيش الاحتلال والتوحش الموصوف لقطعان المستوطنين والمتطرفين الدينيين، ما يستنهض الهمم ويشحذ النفوس بشحنات الغضب وتكفي مشاهد الإساءات والتعديات والإذلال التي نقلتها وسائل التواصل الاجتماعي بحق النساء والشيوخ والشباب من المسجد الأقصى ليخرج الناس يصرخون لفلسطين والقدس والأقصى.
- يأتي يوم القدس وكيان الاحتلال في حال تراجع وانقسام وفشل، وكل شيء يقول إنه يعيش أسوأ أيامه، كما يقول قادته علناً، وإن مصيره على الطاولة، وإن لا وصفة شفاء له من مأزق الوجود والخراب الثالث ولعنة الثمانين، وبالمقابل يبدو خيار المقاومة أبعد مدى من مجرد موقف مبدئي وقد صار له محور وغرفة عمليات، وبدا حاضراً بقوة لنصرة فلسطين والقدس والأقصى، وفي الجولة الأخيرة، التي هرب كيان الاحتلال من خوضها، كانت صواريخ قليلة وبسيطة كافية لإجباره على التراجع وإعلان وقف دخول مستوطنيه الى حرم المسجد الأقصى، ما يمنح الإحياء وظيفة في صناعة موازين قوى تحتاجها فلسطين والقدس والأقصى، بحيث لا تبدو المشاركة مجرد تلبية لنداء الضمير، بل تعبيرٌ عن مساهمة حقيقية في مسار يبدو واضحاً أن هدف التحرير لا يبدو بعيد المنال عنه.
*نائب لبناني سابق ورئيس تحرير جريدة البناء.