د. كلود عطية
لطالما سعت الجمهورية الإسلامية في إيران ومنذ سنوات الى فكّ الاشتباك السياسي مع المملكة العربية السعودية، وكانت السبّاقة في إيجاد الحلول النهائية لصراع وهميّ صنعته الأيادي الصهيونية السوداء بأساليبها الاستخبارية الإلغائية والتخريبية التي عملت على زرع بذور التفرقة واللعب على وتر الطائفية والمذهبية، وهي اللعبة المستبعَدة مفاهيمياً وعقائدياً وأخلاقياً من قاموس إيران السياسي والاستراتيجي.
وبالرغم من كلّ الأحداث التي فرضت مواجهات دمويّة بين إيران والسعودية منذ عام 1943 مروراً بعام 1987 إثر مواجهات بين حجاج إيرانيين والشرطة السعودية، وآخرها عام 2016 عند قيام محتجين إيرانيين بإحراق واقتحام سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد شمال شرق إيران على خلفية إعدام السعودية لرجل الدين الشيعي نمر باقر النمر، بقيت إيران على استعداد لعودة العلاقات إلى مسارها الدبلوماسي الطبيعي بعيداً عن التدخلات الغربية والصهيونية في هذا الإطار.
وعلى الرغم من معادلة القوة التي تتمتع بها إيران إلا أنها استبعدت في إصرارها على لقاء السعوديين كلّ موازين القوى الإقليمية والعالمية، وارتضت وساطة الصين باعتبارها الشريك الاقتصادي الأقوى في المنطقة بعيداً عن الغطرسة الأميركية وانشغال الروس في حربهم مع أوكرانيا…
بالطبع لا يمكننا الدخول في تفاصيل الأسباب التي أدّت في نهاية المطاف الى عودة العلاقات، وربما إبرام صفقات واتفاقيات لمصلحة البلدين.. إلا أننا نستطيع القول إنّ إيران استطاعت أن تفرض قوّتها رغم كلّ العقوبات والحصار الأميركي والعالمي عليها… فهي الدولة التي انتصرت بعد مخاض ثوري استثنائي نقلها الى مصاف الدول المتقدمة على المستوى الاقتصادي والعسكري والازدهار الحضاري الشامل، حيث استطاعت مع الإمام الخميني تفكيك منظومة الشاه/ الأميركي، وقدّمت نموذجاً لشعوب العالم في تحويل الاستعمار الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي إلى فرص من التقدّم والتطور وبناء الدولة القوية المستقلة والمنفتحة التي ترسّخ نهجها المناهض للهيمنة والداعم لقضايا الشعوب المستضعفة والمظلومة .
أما بالنسبة للسعودية فهي تعيش فترة انتقالية استثنائية قد تجعلها دولة أخرى لا تشبه تاريخها ولا ماضيها بل قد تشهد تحوّلاً جذرياً في بنيتها الاجتماعية والثقافية وقد تكون بعد سنوات قليلة أمام عقد اجتماعي جديد.. هذه النقلة النوعيّة التي قد تساهم في انتشالها من الحرب السورية واليمنية والعراقية وغيرها الى شاطئ الأجندة الأممية 2030. أما أبرز النقاط التي تمّ طرحها في هذه الأجندة بحسب الرؤية السعودية هي ما كشفه ولي العهد محمد بن سلمان، أنّ المملكة تحتوي على موارد طبيعية كثيرة من أهمّها المعادن مثل اليورانيوم والذهب والفضة والنحاس والفوسفات وغيرها التي لم يتمّ استغلالها كما ينبغي، حيث لم يستغلّ منها سوى 5% تقريباً. واستغراب ابن سلمان أيضاً من أنّ المملكة التي تعدّ ثالث دولة عالمياً في الإنفاق العسكري، لا يوجد فيها صناعات عسكرية، وبناءً عليه، سوف يتمّ إنشاء شركة قابضة للصناعات العسكرية الحكومية تهدف إلى عقد صفقات عسكرية حيث سيتمّ تخصيص 50% للمشتريات العسكرية من التصنيع السعودي، ويأمل أن تكون الدولة هي الأقلّ عالمياً في نسب الفساد، مشيراً إلى أنّ نظام الخصخصة سيحدّ من انتشاره وسيساهم في مكافحته .
أما بالنسبة للصين فهي لا تزال تعتمد إلى حدّ كبير على واردات الطاقة من الشرق الأوسط، مع ضعف احتمال حدوث تحوّلات كبيرة قصيرة الأجل في ذلك المأزق. وهذا هو أيضاً حال اقتصادات كافة البلدان الآسيوية الكبرى تقريباً ـ ومعظمها من الحلفاء الأساسيين للولايات المتحدة، لكنها أيضاً من أهمّ الشركاء التجاريين للصين. وكنتيجة لذلك، فللصين مصلحة كبيرة في كلّ من الاستقرار الإقليمي الإجمالي وعلاقات العمل اللائقة مع أبرز الدول الإقليمية المنافسة: ابتداءً من إيران، ومروراً ببلدان الخليج العربي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
كلّ ذلك يجعل الشرق الأوسط ساحة مهمة جداً لكلّ من المنافسة بين القوى العظمى والتعاون العالمي، وليس إلهاءً عن هذين الأمرين. وفي الوقت نفسه، يجعل ذلك الصين أحد المنافسين الصاعدين للولايات المتحدة الأميركية منافستها الجيوسياسية الرئيسية على إمكانية الوصول إلى تلك المنطقة وتحقيق النفوذ فيها.
وها هي تحرج الولايات المتحدة الأميركية بتحقيقها اتفاقاً بين السعودية وإيران. وفي هذا السياق، تقول نائبة الرئيس ومديرة السياسة الخارجية في معهد “بروكينغز” سوزان مالوني، “إنّ ما هو ملحوظ بالطبع، هو قرار منح الصينيّين انتصاراً كبيراً في العلاقات العامة ـ صورة فوتوغرافية تهدف إلى إظهار مكانة الصين الجديدة في المنطقة”، مضيفة: “بهذا المعنى، يبدو أنها صفعة سعودية أخرى بوجه إدارة بايدن”.
إلا أنه للتذكير بأنّ الصين في الحقيقة هي التنين الذي يصرع الولايات المتحدة الأميركية متى يشاء وهي القوة الاقتصادية والعسكرية القادرة على إدارة اللعبة التي تريد… ومتى تريد، فهي بالرغم من علاقاتها الاقتصادية ومصالحها التجارية مع إيران والسعودية إلا أنها تمثل القوة الحقيقية القادرة على بناء جسور للسلام والازدهار في المنطقة وهي وحدها من يملك الرغبة في إعادة إعمار سورية وفكّ الحصار المالي والاقتصادي عن لبنان وإنهاء الحرب في اليمن ومساعدة العراق والوقوف دائماً الى جانب حق الفلسطينيين في أرضهم.. وهذا بالطبع ما يزعج “الإسرائيليين” الذين لا يتمنون التقارب بين الدول الإقليمية والعربية على الرغم من محاولاتهم التي لا تهدأ لتحويل الصراع التاريخي مع دول الجوار الى علاقات طبيعية قائمة على التطبيع المقنّع بالكره والتعصب والإلغاء..
أما في الجانب الآخر فنرى أنّ حزب الله في لبنان قد ازداد قوةً وثباتاً وصلابة للوقوف دائماً في وجه العدو الوجودي.. كما أثبت التقارب السعودي الإيراني برعاية بكين وجهة نظر السيد حسن نصر الله الذي صرّح بالدعوة إلى «التوجّه نحو الشرق» والتعاون مع دولٍ أبدت استعدادها لدرء خطر الجوع عن لبنان، كالصين وإيران.
ولمَ لا، طالما أنّ إيران تحوّلت إلى قوة دولية، واحتلت المرتبة الأولى في منطقة جنوب غربي آسيا في المجالات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وأصبحت نموذجاً ملهماً ولاعباً فاعلاً ومؤثراً في العالم العربي وغيره… والصين باتت تدفع باتجاه تنمية اقتصادية كبيرة للدول العربية.
في النتيجة، إذا أردنا أن نقارب السلام، استناداً الى الفكر الواقعي، فيمكن أن نعكس نظرة الواقعيين التشاؤمية في هذا المجال، استناداً الى فكر هوبس Hobbs الذي يؤكد على “الفوضى” في حالة الطبيعة الأولى، والتي تستتبع بطبيعة الحال ـ حالة حرب، أو كما وصفها هوبس “بحرب الكلّ ضدّ الكلّ”.
إلا أنه في الواقعية أيضاً، يعرّف السلام ببساطة بأنه “غياب الحرب”، أو بتعبير أدقّ، السلام هو وقف مؤقت للأعمال العدائية تحققه القوة العسكرية. “إذا أردت السلام، عليك الاستعداد للحرب” عبارة تلخّص وجهة نظر المدرسة الواقعية، حيث يتمّ تأمين السلام من خلال فرض النظام بالقوة.
أما مدرستنا القومية فتنطلق من قول سعاده: “إننا نريد حقوقنا كاملة ونريد الصراع مع المصارعين لنشترك في إقامة السلام الذي نرضى به”.
(البناء)