ناصر قنديل
في لقاء امتدّ لساعتين مع المشاركين في المؤتمر الأول للرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين، ضمّ أكثر من مئتين من رجال وسيدات الفكر والثقافة والسياسة والإعلام في حركات ودول محور المقاومة، تناول الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ما يشبه البيان في حال الأمة مقدّماً تقريراً استراتيجياً عن أحوال المنطقة، إضافة لما قام بتخصيصه من فقرات حول حرب العقول ومعركة الوعي، والقواعد والضوابط التي يفترض أن تحكم أداء الذين يخوضون هذه المعارك، وتقديره لخطورة المواجهة الدائرة على هذه المساحة الممتدة بين الثقافة والفكر والسياسة والإعلام، مقدماً في هذا السياق جديداً لافتاً وجديراً بالاهتمام، يؤكد عبره حجم القيمة المضافة التي يقدمها في كل مرة يقارب فيها أي ملف من الملفات، فكيف عندما يكون هذا الملف المتصل عضوياً بميدان معركة الوعي وكي الوعي وكي كي الوعي، التي جعلها السيد نصرالله واحدة من أبرز ميادين إبداعه الشخصيّ ومساهماته النوعيّة.
قدم السيد نصرالله خلاصة تجارب قوى النهضة والتحرر بين شعوب المنطقة، مؤكداً استقلالية هذه القوى ومصداقية وطنيتها في مقاربة الملفات التي تخص بلدانها، مضيفاً أن ذلك لا يعني سذاجة هذه القوى واقتناعها بأنها معزولة عما يجري في المنطقة، أو أن تستطيع ضمان استقلال أوطانها وضمان تقدّمها، خارج إطار ما يتأكد بما لا يعتريه الشك من ارتباط مصيري وعضوي بالمعارك الكبرى الدائرة في المنطقة، مشيراً الى حجم التداخل بين هذين البعدين الوطني والإقليمي في معارك النهوض والاستقلال والتحرر، حيث كل تقدم في صناعة موازين قوى محلية ضامنة للتقدم نحو هذه الأهداف، يصطدم بلا مواربة بتدخلات خارجية مباشرة وعلنية لا مواربة فيها، كما هو الحال في اليمن وسورية ولبنان والعراق، حيث الحروب الأميركية وحيث الحصار والعقوبات والحروب الناعمة والخشنة، وصولاً للزج بقوى الإرهاب والتكفير كأدوات للتأثير على مجريات هذه المواجهة.
حتميّة الانخراط في معارك المنطقة تستدعي من كل القوى الجدية امتلاك تشخيص دقيق لطبيعتها، مستعرضاً فرضيتين جرت محاولات لتعميم حضورهما في الوعي الشعبي في النظر لهذه المواجهة، مناقشاً ومفنداً بالتفصيل فرضيّة اعتبار أصل الصراع دينياً بين المسلمين والمسيحيين، ونظرية الحروب الصليبية التي ترد في أدبيات تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، مستعيداً موقف الغرب من الوجود المسيحيّ في الشرق من جهة، وموقف حكومات الغرب من المسيحيّة نفسها كدين ورموز، ثم فرضية اعتبار ما يجري تعبيراً عن صراع مذهبيّ بين السنة والشيعة، ومحاولة تصوير الاستقطاب الجاري في المنطقة سواء التموضع الأميركي العسكري والسياسي ضد قوى المقاومة، وصولاً للحصار والعقوبات، وامتداداً للتطبيع مع كيان الاحتلال، مجرد تجليات لجبهات هذا الصراع المذهبي. وفي الردّ على هذه الفرضيّة سيل من الحجج يعرضه السيد، وصولاً الى السؤال عن الهوية المذهبية للشعب الفلسطيني، وتفسير تاريخ العلاقة التبعية لحكومات الخليج بالنظام الإيراني في زمن الشاه، مضيفاً في الرد على عنواني الفرضيتين للحرب الدينية والحرب المذهبية، أن المشروع الأميركي لا يعنيه من الهوية الدينية والمذهبية لقوى المقاومة، التزامها العقائدي وتقيّدها بالضوابط الدينية، بقدر ما يعنيه موقفها السياسي، وخصوصاً موقفها من احتلال فلسطين وأداء كيان الاحتلال في المنطقة. ولدى المقاومة في لبنان العديد من الشواهد عن العروض التي تلقتها والإغراءات التي عرضت عليها، بما فيها الاحتفاظ بسلاحها، لمجرد كلمة تلتزم عبرها بعدم الدخول على خط المواجهة مع كيان الاحتلال وامتناعها عن المساندة العملية لحركات المقاومة في فلسطين.
يقدّم السيد نصرالله معادلة واضحة للصراع الذي تجد كل حركة وطنية استقلالية نهضوية في أي من بلدان المنطقة، نفسها في قلبه إذا أرادت الإخلاص لأهدافها، وهو الصراع بين شعوب المنطقة من جهة، ومشروع الهيمنة الأميركية الهادف للسيطرة على الجغرافيا الاستراتيجية لمنطقتنا، ونهب ثرواتها والتحكم بمقدراتها، والكيان الغاصب لفلسطين كثكنة متقدّمة لمشروع الهيمنة، وقوة احتلال وتهجير وقتل واغتصاب لأرض فلسطين وشعبها ومقدّساتها، من جهة مقابلة. وهذا الصراع هو القانون الحاكم لواقع المنطقة خلال قرن مضى، مستعرضاً المحطات التي مرّ بها، خصوصاً في العقود التي تلت انتصار المقاومة عام 2000 بتحرير جنوب لبنان دون قيد أو شرط، من جهة، وأحداث 11 أيلول التي تبعتها حروب الهيمنة العسكرية الأميركية من جهة مقابلة.
أشار السيد نصرالله الى نجاح شعوب المنطقة وحكوماتها المستقلة وقوى المقاومة فيها في إفشال النسخة الأولى من حروب الهيمنة التي مثلتها الحرب الأميركية العسكرية الخشنة، والتي امتدت لعقد كامل، تلاها إفشال النسخة الثانية من حروب الهيمنة التي شكل استثمار انتفاضات الشعوب والسطو عليها وتحويلها الى حروب للإرهاب لفرض أهداف مشروع الهيمنة، ومثلما كانت سورية والعراق ولبنان ساحات إسقاط النسخة الأولى كانت هي ساحات إسقاط النسخة الثانية. وفي النسختين كان القائد الشهيد قاسم سليماني رمز انتصار شعوب المنطقة، مستطرداً لتقديم إشادة خاصة بما قدّمته حركة طالبان من إنجاز وتضحيات انتهت بالنجاح في فرض هزيمة مذلة على الجيش الأميركي. وخلص السيد نصرالله الى عرض البعد الاقتصادي المتمثل بمحاولات الإسقاط والدفع الى الانهيار والتجويع، كعنوان للنسخة الثالثة من حروب الهيمنة، مستخلصاً أنه رغم ضراوة وقسوة هذه الحرب، إلا أننا قادرون على تجاوز مخاطرها بإرادة الصمود ونشر الوعي وثقافة الصبر، وعدد من الإجراءات التي تخفف من وطأة الضغوط المالية والاقتصادية وفي مقدمتها تعاون دول وشعوب المنطقة وتكامل مقدراتها.
هنا يدخل السيد نصرالله على زبدة خلاصاته، فيرصد ظهور جديدين كبيرين يطغى حضورهما على تداعيات النسخة الثالثة من حروب الهيمنة، وهما، أولاً ظهور محور المقاومة، وهو محور جدي وجديد على معادلات المنطقة، يضم حكومات وقوى المقاومة، التي تشاركت بخوض معارك وتلاحمت فيها تضحياتها ودماء شهدائها، وتنامت خلالها أواصر التنسيق والتكامل والوحدة بين مكوناتها، حتى صارت قوة عالمية وإقليمية كبرى منتشرة على مساحة العديد من الدول، تقوم بتنسيق وتنظيم قواها وتملك التصورات والأهداف المشتركة، التي تقع في أول سلم اولوياتها، تأكيداً لمعاركها الوطنية واستكمالاً لها. والجديد الثاني هو بلوغ كيان الاحتلال أزمة مصيرية وجودية، تتمثل بوصوله الى مرحلة العجز العسكريّ عن شنّ الحروب، وقد بات العجز مؤكداً مراراً في تجارب وجبهات متعددة، ودخوله في أزمة داخلية بفعل هذا العجز تنامت وكبرت وفرضت حضورها، ووصلت حداً انفجارياً يتحدث عنه قادة الكيان علناً. وهذان الجديدان يفرضان حضورهما الطاغي على كل ما عداهما، وفي قلبهما تأتي النهضة الفلسطينية التي يقودها جيل الشباب الفلسطينيّ الشاب، الذي بات هو مَن يفرض إيقاع أداء هذين الجديدين، محور المقاومة وأزمة الكيان، نحو اللحظة الفاصلة، والمنازلة الشاملة.
يؤكد السيد نصرالله أن محور المقاومة يضع على جدول أولوياته الاستعداد لملاقاة هذا المنازلة الآتية حكماً في مدى السنوات القليلة المقبلة، وهو يفعل ذلك بدرجة عالية من الجدية، بمستوى القلق ذاته الظاهر على مفردات كيان الاحتلال ومكوّناته، من لحظة انهيار الكيان وتفكّكه نحو الزوال الأكيد، ولو اتخذ هذا القلق تعبيرات من التوحّش التي يقدّمها أداء المستوطنين وجنود الاحتلال، بما يسرّع الانهيار ويجعل اللحظة الفاصلة أقرب، وبمثل ما يعتقد السيد نصرالله أن الكيان يفقد كل يوم مصدراً جديداً من مصادر قوته التقليدية، يؤكد أن محور المقاومة يكتسب كل يوم أسباباً إضافية من أسباب القوة، وهو يملك امتداداً بشرياً يفيض عن حاجاته للمعركة المقبلة، ويحتاج الى بعض الوقت لاستكمال جهوزيته، والى كثير من الصبر والصمود والتحمّل، وهي عناصر يصنعها الوعي، وميدانها الثقافة، وهي مهمة المفكرين وأهل السياسة والإعلام، جوهرها زرع الأمل والثقة بالاستناد الى معطيات ومقدّمات واقعية، تماماً كما تقول تجربة المقاومة وانتصاراتها، منذ العام 1982.
السيد يؤكد أن المنازلة الفاصلة مقبلة خلال سنوات قليلة آتية، ويشير الى النقاش داخل الكيان حول الوجود والتساؤلات الكبرى حول الخراب الثالث، وزوال الكيان قبل بلوغه الثمانين، والكيان يبلغ الثمانين بعد سنوات، أي عام 1927، وعلى الأبعد عام 1928، والمنطقي ألا يُترك يعبر الثمانين وتتعزز ثقته بأنه يملك القدرة على البقاء وقد تجاوز لعنة الزوال. فهل يقصد السيد أن معركة كبرى تنتظر المنطقة قبل العام 1928، وأن على الجميع أن يضبط إيقاع استحقاقاته وقراءاته على ساعتها؟