ناصر قنديل
– بالرغم من كثرة التحليلات والتأويلات، حول علاقة الكلام الرئاسي الصادر عن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بحسابات دولية وإقليمية أو تفاهمات تطمينية تمّت خلف الكواليس، فالأكيد لمن يعرف كيفية اشتغال عقل المقاومة وحساباتها، ترتكز منطلقات كلام السيد نصرالله على معادلات خاصة في قراءة المشهد الرئاسي، فتضع خطاً فاصلاً مع مرحلة وتفتح الباب لمرحلة ثانية. والمرحلة التي تنتهي هي مرحلة منح الفرصة للربط بين إعلان تبني ودعم ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وهو المرشح المحسوم عند حزب الله وحركة أمل منذ بدأ التفكير الجدي بمقاربة الاستحقاق الرئاسي، وبين التوافق مع التيار الوطني الحر على التحرك معاً في مقاربة هذا الاستحقاق ترشيحاً، وقد مر ما يكفي من الوقت والجهد للتوصل إلى قناعة باستحالة انضمام التيار الوطني الحر إلى تبني دعم هذا الترشيح ابتداء، أي افتتاح مقاربة الاستحقاق بإعلان الترشيح في بداية المعركة، مع التمييز الدائم والدقيق بين ثلاثة مستويات في المقاربة أتعب السيد نصرالله متابعيه في شرحها دون أن يتعب، مستوى الفصل بين الانتخابات الرئاسية اتفاقاً واختلافاً وبين التفاهم السياسي المبدئي مع التيار أو مع سواه، والمستوى الثاني هو مستوى الفصل بين التشارك في الترشيح والتشارك في الانتخاب، والمستوى الثالث هو مستوى الفصل بين التشارك في الترشيح والانتخاب والتشارك في تأمين النصاب. وقد قام السيد نصرالله بحياكة الكنزة الرئاسية على هذه المستويات الثلاثة، مفتتحاً مرحلة جديدة في الاستحقاق محورها الذهاب الى التنافس الانتخابي، كما دعا رئيس مجلس النيابي نبيه بري، أو العودة الى تلبية دعوة الرئيس بري للحوار طلباً للتوافق، لكن في الحالتين النظر للمرحلة الراهنة بصفتها نصف الطريق في المشوار الرئاسي، وليست نقطة الوصول النهائية.
– في المستوى الأول يبدو واضحاً حرص السيد على التفاهم مع التيار الوطني الحر، ليس فقط عبر تأكيداته المباشرة المكررة على هذا الحرص، بل بمضمون سرده لمحطات تاريخية ذات صفة سجالية لإثبات الحرص، عبر صناعة معادلة، التفاهم لا يلزم بالتشارك في الخيارات الرئاسية ذاتها، والخلاف في الخيارات الرئاسية لا يعني خروجاً من التفاهم أو عليه. وهنا سوابق متكررة للسير منفردين في مقاربة انتخابات رئاسة مجلس النواب التي تهمّ الطائفة الشيعية بمثل ما تهم رئاسة الجمهورية المسيحيين، وفي مقاربة رئاسة الحكومة مراراً التي تهم طرفي التفاهم كما تهم جميع اللبنانيين بصفتها رئاسة السلطة التنفيذية، دون أن يؤدي ذلك في أي مرة إلى تعريض التفاهم للاهتزاز، لكن الحرص على التفاهم كان يستدعي منح الفرصة للتوافق على خيار موحّد قبل الاستعداد للسير منفردين، وتحت سقف التمسك بالتفاهم، ومن دون أن يكون محسوماً بعد معرفة أي من الخيارات الرئاسية يملك فرصة الفوز، ولا السياق الذي ستسلكه مسيرة التنافس والتوافق نحو إنجاز الاستحقاق الرئاسي، والانفتاح سلفاً على ما قد يتخللها مجدداً من فرص التلاقي، وهنا يضيف السيد نصرالله جملة مفصلية تتصل بالدعوة الى الفصل بين مقاربة رئاسة الجمهورية والحديث عن بناء الدولة ومكافحة الفساد، لأن الأمرين من اختصاصات لا يملك رئيس الجمهورية صلاحيات تتيح ربط الأمرين به، وتقول تجربة الرئيس ميشال عون إن الجدية في مقاربة هاتين المسألتين تستدعي البحث في كيفية تشكيل غالبية نيابية وغالبية حكومية منسجمة في النظر اليهما، وما لم يستطع فعله الرئيس ميشال عون لا يمكن أن يطلب من سواه، خصوصاً بالنسبة للتيار.
– في المستوى الثاني الذي يبدأ للتوّ بعد إعلان دعم الترشيح، والكشف عن الاسم علناً بصورة رسمية، وهو مستوى الانتخاب، فنحن أمام خيارات أن يذهب التيار الوطني الحر إلى تبني ترشيح منافس، أسوة بما يفعله الآخرون، ويترك للمعادلة النيابية أن تحسم الخيار الفائز. وهذه معادلة نظرية غير قابلة للتطبيق عملياً، لأن التوازنات النيابية الراهنة تقول إن تأمين الـ 65 صوتا الذي لم يعد متاحاً لصالح مرشح خصوم المقاومة باعترافهم، ولا هي متاحة لمرشح يتبناه التيار، لن تصبح متاحة للمرشح سليمان فرنجية دون انضمام أحد طرفي فاعلين، التيار الوطني الحر أو الحزب التقدمي الاشتراكي وعدد من النواب المستقلين، على الأقل. وهذا يعني أن الباب مفتوح عبر الحوار الذي يفتتحه اعلان الترشيح للتوافق مجدداً على الانتخاب، إن لم يكن بانضمام التيار إلى التصويت لفرنجية من باب التفاهمات الانتخابية. فالباب مفتوح لفرضية انضمام الحزب التقدمي الاشتراكي والمستقلين، وما سيرتبه من فرصة حوار مع التيار لفتح النقاش حول ما وصفه رئيس التيار النائب جبران باسيل بالخيار الرئاسي الثاني، أي غض النظر عن اسم المرشح مقابل التفاهم مع الكتلة الناخبة لهذا المرشح على المشروع السياسي، الذي ستلتزمه الكتل في مواقعها النيابية الراهنة ومواقعها الحكومية اللاحقة؛ هذا مع بقاء فرضية حدوث توافق خارجي وداخلي كبير لا يمكن للتيار أن يبقى خارجه، بينما أمامه فرصة طرح شروطه للانضمام اليه، مستفيداً من أن حليفه في التفاهم هو الركن الحاسم في هذه الفرضية داخلياً وخارجياً.
– المستوى الثالث الذي أظهر السيد نصرالله حبكته السحرية فيه، وقطبته المخفية، هو مستوى تأمين النصاب، فهو سدّد ضربة جزاء قاتلة لخصومه عندما أظهر سخافة منطقهم في التعامل مع النصاب والتعطيل، فهم يدينون التعطيل قبل الظهر ويهدّدون به بعد الظهر، ويؤيدون نصاب الثلثين في العطل والأعياد، ويؤيدون نصاب الأغلبية في أيام الدوام الرسمي، والدستور عندهم كأصنام التمر عند أهل الجاهلية يعبدونها، وإذا جاعوا يأكلونها، بينما عند السيد وضوح وثبات وانسجام ومصداقية. نعم نحن عطلنا ولكم الحق أن تعطلوا، والنصاب هو الثلثان ثابت لا يتغير، سواء أسهم هذا بدعم مرشحنا أم أضعف فرص وصوله، وفي هذا المستوى يفيد تدقيق بسيط في المعادلات الانتخابية، أن خصوم المقاومة دون نواب الحزب التقدمي الاشتراكي ونواب التيار الوطني الحر لا يملكون قدرة التعطيل، لأن هناك قرابة 66 نائباً مستعدون للحضور في أي جلسة انتخابية، منهم أكثر من 43 ينتخبون سليمان فرنجية، ومقابلهم 35 نائباً مستعدون لتعطيل النصاب، وبدون التيار الوطني الحر لا يتحقق النصاب، إلا إذا تغيرت الظروف الخارجية وجاءت بالمقاطعين إلى المشاركة بتأمين النصاب، وفي هذه الحالة، بل وفي سواها لا يبدو أن خيار تعطيل النصاب هو أولوية التيار الوطني الحر، بل ربما تكون مشاركته في تأمين النصاب في حال وجود تسوية كبرى أو في غيابها، شكل الحد الأدنى من التشارك تحت سقف التفاهم بين الحزب والتيار.