سعادة مصطفى أرشيد*
استأثر الاهتمام بسلوك وسياسات الحكومة (الإسرائيلية) الجديدة باهتمام الفلسطينيين وأهل مشرقنا، بسبب السياسات التي تعلنها الحكومة ووزراؤها تجاه ملفات الاستيطان والقدس من قبل وزير الأمن القومي بن غفير، وحتى تجاه السلطة الفلسطينية التي صادر وزير المالية سموترتش جزءاً من أموالها بقرار غير مبرّر إدارياً…
هذا الاهتمام له ما يبرّره من حيث أنّ هذه الحكومة تريد حسم ملفات الصراع الرئيسية، ولا تبالي بارتكاب القتل والإجرام دون حياء أو نفاق يظهرها أمام العالم، باعتبارها دولة ذات معايير إنسانية أخلاقية، إلا أنّ الاهتمام بهذه الملفات المتعلقة بالشأن الفلسطيني في الجانب الآخر (الإسرائيلي) المعارض لحكومة نتنياهو السادسة، كان ثانوياً لصالح الملفات الإسرائيلية الداخلية.
في مجال التحليل ثمّة ثلاثة ملفات ستكون هي محطات السجال اليهودي ـ اليهودي المركزية بين حكومة الأغلبية المرتاحة لوضعها البرلماني، وبين المعارضة التي ترى أنّ الديمقراطية وفقاً للنمط الغربي المعمول به في (إسرائيل) تعني المشاركة لا المغالبة. والملفات الثلاثة هي ملف السلطة القضائية والدفاع عن استقلاليتها، وملف الديمقراطية التشاركية، بالطبع اليهودية ـ اليهودية باعتبار الدولة دولة اليهود أصلاً، وملف الهوية الجامعة في مقابل الهويات الفرعية، أما الملف الفلسطيني فهو خارج التداول الجدي باعتباره ملفاً أمنياً إدارياً ثانوياً لا ملفاً سياسياً.
ترى المعارضة على اختلاف مشاربها ومرجعياتها، أنّ تيار اليمين المتطرف قد ربح معركة السلطة التشريعية بفوزه بالانتخابات بأربعة وستين مقعداً برلمانياً، بعد معركة طاحنة استمرت أربع سنوات جرت خلالها خمسة انتخابات عامة، ثم أنها كسبت معركة السلطة التنفيذية بفوزها بثقة البرلمان (الكنيست) وشكلت حكومة تبدو طويلة العمر حتى الآن. وترى المعارضة أنّ المعركة الآن حول السلطة الثالثة ـ السلطة القضائية التي تريد تعديلات نتنياهو إجراءها مما يؤدي لإضعاف جهاز القضاء وإلى أن تصبح الحكومة ورئيسها فوق القانون وغير خاضعين له، يريد نتنياهو وتحالفه الإمساك بزمام السلطة القضائية ووضعها في خدمته، وذلك من خلال وزير العدل الجديد ومجموعة التشريعات الجديدة التي يقول نتنياهو إنها وردت في برنامجه الانتخابي والتي نال الثقة على أساسه، وإنْ استطاعت الحكومة تمرير ذلك فسيصبح وضع نتنياهو شبيهاً بوضع الملك الفرنسي لويس الرابع عشر الذي كان يقول: أنا الدولة والدولة أنا.
تعيش (إسرائيل) حالة استقطاب سياسي داخلي غير مسبوق إذ تبدي المعارضة استعداداً للمواجهة حتى نهاية الشوط ولسان حالهم يقول: لم يتبقّ شيء خارج سيطرة الملك المستبد بن يامين نتنياهو، وسينضمّ إلى السياسيين المعارضين القضاة والمحامون والنقابات الفاعلة، والتي لا يزال بعضها خارج سيطرة اليمين.
تظاهر مئات الآلاف وللأسبوع السادس ضدّ الحكومة الجديدة في أكثر من مدينة، بالقدس، أمام منزل رئيس الدولة هيرتسوغ الذي أبدى تفهّماً لمطالبهم وللحاجة إلى إنهاء النزاع الداخلي، باعتباره يمزق مجتمعهم ويحدث أزمة دستورية واعداً ببذل الجهد لمعالجتها. وفي حيفا حاملين شعارات التحذير من الانقلاب على الديمقراطية، أما في تل أبيب فشعاراتهم تمحورت حول العبث الحكومي في الجهاز القضائي وعلى قضايا الفساد المرفوعة والمنظورة في المحاكم ضدّ نتنياهو، ومندّدين بما يرونه فاشية بعض وزراء الحكومة.
المدّعية العامة للدولة شاركت في التحريض على التظاهر، وهي ترى أنّ هنالك تضارباً في المصالح، حيث أنّ نتنياهو يمثل أمام القضاء بقضايا فساد فكيف يصبح الوضع حين يصبح فوق القضاء، محافظ بنك (إسرائيل) المركزي حذر بدوره من التطاول على السلطة القضائية، وأكد أنّ ذلك سوف يجعل من الاقتصاد “الإسرائيلي” اقتصاداً طارداً للاستثمار، فيما اجتمع المدراء التنفيذيون للبنوك الكبرى بوزير المالية للغرض ذاته ولإيصال الرسالة ذاتها…
هذا ويلاحظ أنّ المتظاهرين لم يبدوا اهتماماً يُذكر تجاه قضايا الضفة الغربية وملفاتها العالقة، شارك في التظاهر بعض من بطاركة السياسة منهم رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك ووزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني ووزير الدفاع المرتحل مؤخراً بيني غانتس.
في نظرة من الجانب المقابل، أي جانبنا نحن، هل علينا أن نشعر بالابتهاج لذلك الخلاف باعتباره بداية النهاية لدولة الاحتلال، وأنّ الله قد كفانا شرّ قتالهم بأيدينا؟ بالطبع دولة الاحتلال إلى زوال في نهاية المطاف، ولكن هذه الأحداث والصراعات لا تكشف عن ضعفهما بقدر ما تعبّر عن حيوية المجتمع لديها. هذا المجتمع الذي نتمنّى زواله إنْ داهمه ربيعه فقد يطيل في عمره، لكن علينا أن نشعر بالغيرة والإعجاب معاً من هذا العدو الذي تبدي معارضته ومجتمعه هذا القدر من الحيوية ضدّ من يريد أن يضعهم في خانة الاستبداد الشرقي، حيث تصبح السلطة القضائية ألعوبة في يد السلطة التنفيذية وأجهزة الأمن. وكما حصل منذ فترة في رام الله، عندما قبل رئيس مجلس قضاء أعلى يحتلّ موقع رئيس المحكمة الدستورية أن يوقع على كتاب استقالته غير المؤرّخ قبل أن يتسلّم منصبه، هذا الكتاب الذي احتفظت به السلطة التنفيذية وأرّخته عندما قرّرت أن يغادر القاضي موقعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.