عقدت ندوة حرمون الثقافية ندوتها الأسبوعية بعنوان “أزمة لبنان عابرة او انهيارية.. والحل تسووي او جذري”، مساء الجمعة الفائت، 3 الحالي، تحدّث فيها المفكر اللبناني ميخائيل عوض وناقشت المحاضرة الباحثة السياسية الإعلامية سماهر الخطيب.
وقدمت الإعلامية السورية ميساء أبو عاصي الندوة والمشاركين، وقالت في افتتاحيتها إن “موضوع ندوتنا اليوم، عن الأزمة اللبنانية التي شهدت فصولاً عدة منذ بداية الحرب الأهلية والصراع على لبنان، في نيسان 1975، وربما الأزمة بأسبابها الحقيقية والبعيدة المدى هي في قيام الكيان اللبناني بطريقة غريبة وعدوانية لم تأخذ الإرادة الشعبية العامة بعين الاعتبار، وببعدها الديمغرافي الداخلي، وعجز القوى السياسية عن إلغاء الطائفية، السياسية والوظيفية والتربوية والاقتصادية والثقافية. هذه الطائفية التي تتصاعد حالياً بفشل كامل وشامل لكل المنظومة السياسية والاقتصادية الرسمية والشعبية.
هذا الفشل العام يظهر بنزعة الأمن الذاتي الطائفي. وكانت تداولت وسائل الإعلام عن حالات تدريب على السلاح في دول عربية، لقوى طائفية، لإعادة النفخ في رماد الصراع الداخلي.
وسؤال الندوة المركزي: كيف يخرج اللبنانيون من العجز الراهن والانهيار الاقتصادي والتفكك السياسي والانقسام الوطني، من عار أن بعضهم يستجدي دول الخارج لتعيد احتلالها الأرض والشعب، وأن تقوّيه ليأتي برئيس يخدم مصالحها. إلى حالة شعبية حاضنة تحمي الوطن وتحقق مطالب الإصلاح الحقيقي والتغيير الضروري لنكون بأمان وطني وبسلام مع جوارنا العربي؟”.
عوض**
استعرض الباحث والكاتب ميخائيل عوض عناصر الازمة واساساتها البنيوية في لبنان وخلص الى انها عميقة جدا ولا تحل بالوسائل التقليدية وبالإصلاح ورَوْتشة النظام.
فلبنان مضروب بأزمة تكوينية بسبب فقدان الكيان لوظائفه، وقد زاد في انتفائها تدمير المرفأ وانهيار القطاع المصرفي وقطاعات الخدمات والسياحة وقد حذر الرئيس ماكرون اللبنانيين من خطر زوال الكيان، كما ان النظام السياسي نظام المحاصة الطائفية أفلس ولم يعُد من قدرة أو فرصة لتجميله أو ترقيعه بعد أن جرت ثلاث محاولات بالعنف في أزمة العام 1958 وفي الحرب الاهلية وفي جولة العنف السريعة ٧ أيار ٢٠٠٨، وهو في أزمة إفلاس النموذج الاقتصادي الذي أصابته عاصفة عاتية وأزمة وصفها البنك الدولي بانها الأخطر والأولى في التاريخ بعد أن كان صنّفها الثالثة خلال قرن ونصف.
ولهذا فإن لبنان دخل حقبة الفراغات الشاملة فراغ في بعبدا وفراغ حكومي وأزمة دستورية وفراغ في الدولة وتعطيل أعمالها وفراغ في الخزينة وقد أفرغت المنظومة اللصوصية المافيوية ودائع اللبنانيين وجيوبهم وفراغ وانهيار القضاء، وفراغ تعطيلي في البرلمان، ولم يبقَ إلا المؤسسة العسكرية المحتمل انهيارها ليدخل لبنان حقبة الفوضى والتوحش.
كما تقع الأزمة اللبنانية العاتية والشاملة والعنيفة، في ظل أزمة إقليمية تاريخية تضرب تشكيلاتها القديمة وتوجب إعادة هيكلة الجغرافيا والنظم والتوازنات. وعلى الصعيد الدولي فالعالم ونظامه القديم يعاني من أزمة إعادة التشكيل. وقد فرضت جائحة كورونا قواعدها وقوانينها الجديدة، وكذلك أطلقت الثورة التقنية الرابعة عوامل دفن النظام القديم وقواعد قوانينه الناظمة للعلاقات بين البشر والامم والقارات والقوى.
عليه؛ فلبنان معرّض للفوضى وزوال الكيان او إجراء تغييرات جذرية في نظامه وفي وظائف كيانه، وتالياً في توازناته الداخلية وفي إعادة تشكيل وهيكلة بنيته السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية.
الفرصة ضيقة جداً لإنجاز التغيير الجذري عبر الوسائل الدستورية كما هي معدومة عبر الوسائل الثورية والانقلابية وتنفتح كوة ضوء عبر انتخاب رئيس للجمهورية يستند الى كتلة وازنة تملك رؤية وبرنامجاً للخروج من الأزمة حتى لو اقتصت الأمور جولة عنف سريعة كالتي جرت في ٧ أيار ٢٠٠٨.
الخطيب***
كما قال الأستاذ ميخائيل عوض بتشخيصه الدقيق للحالة اللبنانية لمعالجة مرض ما لا بدّ أولاً من تشخيصه ووصف العلاج المناسب له. وفي تشخيصه للحالة اللبنانية عدّد ستة أسباب لطبيعة الأزمة في لبنان بدءاً من كون الدولة اللبنانية باتت مجموعة دويلات طائفية وصولاً إلى أزمة سيستم ونظام اجتماعي تقع في واقع التوازنات الإقليمية والاجتماعية مع اجتراحه الحلول الممكنة والسعي لاحتواء الأزمة، والتي تتلخص بالعودة إلى مقدمة الدستور بفقراتها الأربع والتي تقول بأن لبنان دولة مدنية. فممارسة الدستور رسخت العرف الطائفي غير المذكور في مواد الدستور إضافة إلى إعادة هيكلة بلاد الشام مع رسوّ معادلات جديدة وهو أرجح الحلول مترافق مع تشكل قوة لبنانية حاملة للمشروع تكفل إجراء تعديلات جوهرية بالبيئة الاقتصادية وبالتالي السياسية أي تعديل جوهري لبنية النظام..
وهنا نقول بأنه لطالما كان لبنان مسرحاً للتجاذبات الدولية وكذا نتيجة للتوافقات الدولية فقد بات معروفاً لدى القاصي والداني بعلم السياسة أن السياسة اللبنانية هي مجموعة سياسات دولية بل خلاصة تلك السياسات والتوافقات الدولية التي تتبلور في الساحة اللبنانية.
ولسنا هنا في وارد ذكر أنّ نشوء الدولة اللبنانية كغيرها من دول المنطقة التي نشأت بدون وجود عقد اجتماعي أدى لنشأتها بتوافق أبنائها إنما كان نتيجة لأطماع استعمارية وإرضاء لمطالب أجنبية. وما نريد ذكره هنا أنّ ما تعانيه الدولة اللبنانية اليوم من أزمات اقتصادية واجتماعية ونقدية وسياسية هو نتيجة لتراكمات جمّة وأخطاء عدّة أوصلت الحال لما هو عليه الآن، وباتت الأزمة اللبنانية وفق تقرير الصندوق الدولي للنقد من أشدّ الأزمات التي مرّت على العالم في القرن الحالي.
وفي توصيف الحالة اللبنانية غير العادية من جهة نشوء وتكوين الدولة وصولاً إلى طريقة الحكم الحالية وبالرغم من كونها تحمل مسمّى نظام الحكم البرلماني المنبثق من الشعب حيث تتوزع السلطة بين التشريعية والتنفيذية والقضائية وصلاحيات محدودة لرئيس الجمهورية بعد اتفاق الطائف، ورغم أنّ هذه السلطة تُمارس على أساس ديمقراطي وتعددية حزبية، إلا أنّ هذا في ظاهر الأمر أما في باطنه الحقيقي فإنّ هذه الأحزاب بمعظمها هي أحزاب طائفية كما قال الأستاذ ميخائيل، وليست سياسية مدنية أو اجتماعية وكل حزب يؤطر داخل صفوفه من هم من طائفة معينة أو موالون لتلك الطائفة في حال ضم إليه من هم بعيدون عن طائفته. وهنا تكمن المشكلة الأساسية حيث تغلغلت التقسيمات الطائفية من رأس الهرم حتى قاعدته وباتت التقسيمات والمحاصصة الطائفية في جميع المسالك الوظائفية والتعليمية والاجتماعية..
كما أنّ أحد الأسباب الأساسية للمشكلة هو أنّ اتفاق الطائف الذي يحكم وفق بنوده أو بعض بنوده، تمّ وضعه من قبل جهات خارجية بتوافق تلك الأحزاب اللبنانية وهناك من سيقول بأنّ هذا الاتفاق تمّ بصيغته لإنهاء حرب أهلية دامت عقوداً عدة، إنما ما نريد قوله هنا أنّ هذا الاتفاق أوقف ألسنة نيران الحرب الأهلية لكنه لم يطفئ جمرها المتقد والدليل على ذلك أحداث الطيونة وجويا وخلدة وغيرها الكثير..
ناهيك عن كون تلك الأحزاب الحاكمة في لبنان بمعظمها تتبع لقوى خارجية وتنفذ أجندات دولية على أرض لبنانية وبات لبنان مرتعاً لتلك السياسات الخارجية عاجزاً عن حل أزماته الداخلية إلا بقرار خارجي بصرف النظر عن مكمن ذلك القرار سواء أكان إقليمياً أو دولياً..
حتى باتت الدولة العميقة في لبنان هي مجموعة سياسات خارجية وجهات دولية تتحكم بالداخل اللبناني وفق مقتضيات الأوضاع الدولية السائدة وبلا سيادة بات لبنان يشحذ تلك الحلول من هذه الدولة أو تلك ومن هذا التوتر أو ذاك بل وأكثر باتت البؤر المشتعلة في المنطقة تنعكس على لبنان سلباً أو إيجاباً بحسب مواقف أحزابها من تلك البؤر المشتعلة..
وباتت المنظومة اللبنانية متشعبة يصعب الانقلاب عليها لكونها منظومة طائفية وباتت رؤية المواطن لوطنه بعيدة كل البعد عن الانتماء والهوية بل باتت هويته الأساس هي تلك الطائفية وانتماؤه الطائفي يطفو على انتمائه الوطني وهو ما سبب فشل حراك 17 تشرين 2019 فكان من السهل حرف مساره وتفريغه من مضمونه المعيشي ليسحب كل زعيم طائفة أبناء طائفته نحوه، ورغم أنها انعكست على الانتخابات النيابية فشهدت خروج أسماء أساسية في تلك الطبقة السياسية إلا أنها لم تحدث فارقاً في الحياة السياسية والاقتصادية اللبنانية وبحسب تقرير نشره مرصد الأزمة بالجامعة الأميركية في لبنان، فإن الأسوأ لم يأت بعد وإن البلاد على شفا انهيار شامل لن يطال الاقتصاد وحده. ويشير التقرير إلى أن السبب الرئيسي للأزمة هو عدم وجود سياسة متكاملة لمواجهة الأزمة الاقتصادية، إلى جانب غياب الإرادة السياسية الحقيقية للحل والمواجهة.
وفي العودة إلى الأزمة الاقتصادية في لبنان فهناك أكثر من عامل ومن تلك العوامل:
– السياسات الاقتصادية التي كرّسها (الرئيس الراحل) رفيق الحريري في التسعينيات من القرن الماضي عندما وضع سياسة نقدية ريعية تعطي مجالاً للخدمات على حساب الاقتصاد المنتج. هذه السياسة كان من المنتظر أن تصل إلى مرحلة يفلس فيها الشعب اللبناني وتفلس مؤسساته، لأن الاقتصاد لا يمكن أن يقوم على الريع دون إنتاج فعلي..
– الفساد والنهب المنظم لخزينة الدولة اللبنانية، فهناك تقارير تشير إلى نهب حوالي 52 مليار دولار من خزينة الدولة لا يُعرف كيف صُرفت ولا أين تبدّدت! والمؤكد هو تشارك الطبقة السياسية الفاسدة بعملية النهب، وبالتالي هي تتلاعب بسعر الدولار وبمصير الشعب لكي تغطي على فسادها ولكي تكرّر ما فعلته هذه الطبقة السياسية نفسها التي شاركت في الاقتتال الأهلي في البلاد والمطلوب حالياً من التدقيق الجنائي الآن هو أن يتابع مسار تلك الأموال المنهوبة.
– التهريب وخصوصاً الدولار والمواد الغذائية المدعومة إلى الخارج، إضافة إلى جشع التجار.
– ضغوط الولايات المتحدة على إيران وفرض قانون قيصر على سورية أديا إلى الضغط على الاقتصاد اللبناني ونظامه المصرفي، ما أدّى إلى وقف التحويلات الخارجية وأدى الى عدم التعامل مع القطاع المصرفي اللبناني بشكل مريح.
في المحصلة، بات المجال مفتوحاً لكافة الاحتمالات، ومن غير الممكن التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه الوضع في لبنان مع استمرار وجود طبقة سياسية لا زالت تتلاعب بمصير الشعب والبلاد وهي غير مستعدّة لتقديم أي تنازلات لكي تحسن من الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي أصبح ضاغطاً على اللبنانيين ويهدد بانفجار شامل.
ويبدو أنّ مفتاح الحل هو كما في كل أزمة يمر بها لبنان يجترح الحل من الخارج إلى الداخل وليس العكس، ورغم أن هذا الأمر في حد ذاته هو مشكلة فعلية، إذا لم تعالج المشكلة الأساسية فإن سيناريو الأزمات في لبنان سيتكرر لأن من وضع لها هذا النظام الطائفي لو عرفياً وليس مدوّناً فوضع لكي يبقى لبنان مرتعاً للأزمات والتدخلات الخارجية..
بالتالي فإنّ أي تسوية إقليمية أو انفراج في الإقليم سينسحبان على لبنان وسيؤديان للضغط على الفرقاء اللبنانيين للقبول بتسوية كما يفعل اليوم صندوق النقد الدولي والدول المانحة للقيام بالإصلاحات، وأيضاً يجب وجود ضغوط على السلطة السياسية لإقرار التدقيق الجنائي وإلا سيكون هناك نوع من الهدنة بين اللبنانيين أشبه بسياسة الترقيع، تمهّد لانفجار في ما بعد طالما لم يوجد حل مستدام يؤدي إلى انفراج حقيقي في لبنان.
غير أن أفضل الحلول هو استفادة لبنان من موقعه الجيوبولتيكي وطبيعته السياحية ومناخه الزراعي واجتراح الحلول من الداخل، وكما قال الأستاذ ميخائيل تطبيق الدستور بصيغته التي تقول بلبنان دولة مدنية وأضيف بضرورة منع رجال الدين من التدخل في السياسة والتي تخلق الأزمات، بخاصة أن شرط قبول رئيس الجمهورية أو الحكومة أو مجلس النواب عرفياً بات قبوله من الشخصيات الدينية أولاً، وهذا أحد أسباب الأزمة التي جعلت لبنان دويلات طائفية تخضع لسلطة الدين وليس الشعب والدولة..
وفتح النقاش للأسئلة والمداخلات وكان من أبرز المداخلات من الخبير الاقتصادي دريد شاكر العنزي الذي اقترح فيها حلاً يقوم على إنشاء حكومة في المنفى ووضع المصارف تحت الوصاية الأممية..
ومداخلة الدكتور منير مهنا الذي أوضح أن الأزمة اللبنانية أزمة مركبة وأسبابها داخلية وخارجية مبرزاً أهمية الهوية والانتماء وضياعهما في لبنان على حساب الطائفة. وأن المدى الخارجي للأزمة هو ينبغي حسم الموقف من الصراع بين مشروع سورية الكبرى او مشروع “إسرائيل” الكبرى.
والدكتور علي العابد والذي أثنى على هذه الندوة وما قدمته من معلومات متمنياً للبنان النهوض والاعتماد على ذاته ومكنوناته، لافتاً إلى ضرورة وجود عقد اجتماعي كما قالت الأستاذة سماهر وهو ما يعني توفر إرادة شعبية وليست خارجية..
*منصة حرمون وسيلة إعلامية تأسست العام 2008 في لبنان ومسجلة في المجلس الوطني للإعلام برقم 130، وتضم مركز حرمون للأبحاث، مجلة محكمة، ندوة حرمون الثقافية، أكاديمية حرمون للإعلام، مجموعة توأمة، موقعاً إخبارياً.
**ميخائيل عوض مفكر مستقبلي من لبنان، كاتب وباحث في علوم المستقبل والتحولات الاستراتيجية. ساهم في تأسيس وإدارة وسائل إعلامية عدة. كاتب إعلامي لوسائل إعلام كبرى محلية وعربية ودولية، وضيف في حوارات لمؤسسات مرموقة. وله 5 كتب سياسية واستراتيجية منشورة: اولها الانتفاضة تحرير فلسطين امر راهن عام 2003، وآخرها العرب والمسألة القومية في القرن الواحد والعشرين.. عام 2018.
*** سماهر عبدو الخطيب – كاتبة صحافية وباحثة في العلاقات الدولية حاصلة على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية والإدارية من الجامعة اللبنانية وماجستير في العلاقات الدولية والدبلوماسية من الجامعة الإسلامية بعنوان “الدبلوماسية الروسية في إدارة الأزمات الأزمة السورية أنموذجاً” والتي نالت درجة 89/100 مع تنويه وتوصية، وحالياً طالبة دكتوراه في العلاقات الدولية والدبلوماسية وعنوان الأطروحة “جيوبولتيك الصراع على الطاقة شرق المتوسط” في الجامعة الإسلامية.