عبير حمدان
كان الحرف بحجم حكايا البلاد وكان القلم مشبعاً بالحبر المسؤول حيث يخشى من يقرر إحتراف اللغة أن يسقط سهواً في متاهة الركاكة، فالخطأ محسوب ورهبة المنبر في أول التشكيل على طريق المفردات تبعث على الخوف.
هناك في بلاد الرافدين عام 2002 إجتمع الشعراء من كل الوطن قبيل الحرب الاميركية على العراق، كنت بينهم وحضرت سورية شعراً وأدباً لكن حضوره الآسر بقي محفوراً في ذاكرتي، الكبير شوقي بغدادي، الذي خاض مع جيل شاب في حينه حوارات عميقة في الأدب والثقافة والشعر والسياسة، وكُثرٌ من الشباب العراقي المثقف انسحبوا من جلسة حوارية معه خشية من الرقابة، لعلهم اليوم يذكرون تلك الجلسات بين بغداد والبصرة أو ربما سرقتهم الخيبات المتعاقبة ووهم الحرية المستوردة إلى عالم السرعة الافتراضية، من يدري.
في مهرجان المربد الشعري عام 2002 التقيت الشاعر شوقي بغدادي وأنا في أولى خطواتي ضمن عالم يضج بالتناقضات والاستنسابية والأحكام المسبقة أحياناً، حيث أن “نخبة” تلك الحقبة كانت تقيّم النص الشعري وفق قيد الولادة تارة ووفق الخلفية الداعية للانفتاح والجرأة في الأداء وما تحمله هذه الجرأة من معانٍ مستترة، وهناك نلت منه الثناء ربما لأني أتقنت الإصغاء وقرأت واقع الدمار المقبل من الغرب الذي قرر تدمير العراق وكل الشرق بإسم “الحرية” تمهيداً لسرقة خيرات بلادنا، وحين زار بيروت لاحقاً بحث عن تلك “الشاعرة الصغيرة” وفق تعبيره حينها وكان بيننا لقاء ثانٍ دعاني خلاله إلى الشام وللاسف لم انل شرف تلبية الدعوة…
قرأت خبر رحيله وعاد بي الزمن إلى ايام المربد حين كنا نعيش في عالم الواقع بحلوه ومرّه، وحزنت على بلادنا التي تودع مبدعيها تباعاً وأصابني هول الفراغ الذي من الصعب أن يعوّضه كل ما يتم رصفه من سطور تحت خانة القصيدة ونصوص يكثف أصحابها إصدارها بشكل متصاعد بحيث اصبحت اللغة صنعة بلا أي روح ابداعية..
قد لا يكفي نص بسطور قليلة ولو أتى مكثفاً بالتفاصيل والمعنى أن يختصر مسيرة كبار احترفوا الوعي وعمموه رغم النكبات والانكسارات وصمدوا بحرفهم ولو “بعد فوات الأوان” عنوان آخر دواوينه في العام 2021 الذي استهله بقصيدة حملت الاسم نفسه:
“سأعتذر الآن، بعد فوات الأوان، أنا لم أجدد حقولي، ولم أتفق والزمان، وحين عشقت النساء وكنت صغيراً، تركت حصاني ولم أك ممن يجيدون ركب الحصان، كبرت على ظهر قافلة صنعت شاعراً ورمت آخر فتخيلت عندئذ أنني حامل الصولجان”.
وقد نعت وزارة الثقافة السورية واتحاد الكتاب العرب الكاتب والشاعر شوقي بغدادي عن عمر 93 عاماً.
البغدادي الذي ولد في بانياس عام 1928م، شارك في تأسيس اتحاد الكتاب العرب الحالي وكان عضواً في مجلس الاتحاد في معظم دوراته إلى أن اختير بعد انتخابات الاتحاد عام 1995 عضواً في المكتب التنفيذي وأسند إليه منصب رئاسة تحرير مجلة “الموقف الأدبي” الشهرية الصادرة عن الاتحاد.
وتخرج من جامعة دمشق حاملاً إجازة في اللغة العربية وآدابها، ودبلوماً في التربية والتعليم – عمل مدرّساً للعربية طوال حياته في سورية وخمس سنوات في الجزائر.
من مؤلفاته: “أكثر من قلب واحد 1955″، “لكل حب قصة 1962″، أشعار لا تحب 1968، “صوت بحجم الفم”، “بين الوسادة والعنق 1974″، “ليلى بلا عشاق، قصص شعرية قصيرة جداً 1981″، “من كل بستان – مجموعة مختارات شعرية 1982″، “عودة الطفل الجميل 1985″، “رؤيا يوحنا الدمشقي 1991”.
كما له عدد من المؤلفات الشعرية للأطفال منها: “عصفور الجنة – حكايات وأناشيد للأطفال 1982، القمر فوق السطوح 1984″، وفي القصة القصيرة: “مهنة اسمها الحلم 1986، حيناً يبصق دماً 1954، بيتها في سفح الجبل 1978، درب إلى القمة”، وفي الرواية: “المسافرة 1994” وغيرها الكثير.